خُطباء من ورق
د. بلال كمال رشيد
يتأففُ بعضُ المصلين مما يتلقونه من بعض الخطباء في كل جمعة من خُطبٍ متكررة ، وأفكار سطحية ، ومعالجات بسيطة ، خُطب كتبت في زمن ما ، وتُلقى في كلِّ الأزمنة ، ويتحول الخطيب معها إلى قارئ صاخبٍ صارخٍ، وموضوعه لا يستدعي ذلك الصراخ وذاك الصخب !!
ما معنى أن يخطب الخطيب عن الغيبة ولا يؤثر في المستمعين ، بل تكون أول غيبة يقترفونها – بعد الصلاة – استغابة الخطيب لأنه أطال ، أو لأن كلامه كان مكروراً ، أو لأنه فسر الماء- بعد الجهد والصراخ- بالماء ،فلم يُرضِ قلباً ولا عقلاً !!
كيف يُؤثرُ الخطيب وهو يصرخ في موضع رفقٍ ولين ، وهو يردد قول رسولنا الكريم : ( رفقاً بالقوارير ) وهو لا يرفق بمستمعيه ؟؟!!
كيف يحترم المصلون خطيبهم وقد وقف فيهم واعظاً ومزمجراً وموبخاً ومتهماً : ( نساؤكم كاسيات عاريات ، أموالكم ربوية )؟ وغيرها كثير.
لماذا يُخطىء الخطيب وهو يقرأ نصاً مكتوباً ، أو حين يُردد نصاً محفوظاً ؟ فيرفع ما كان منصوباً ، وينصب ما كان مرفوعاً ، أما حين يرْتجِلُ الكلام قتأتي الحركات الإعرابية متراقصةً ومتناوبةً وهي تتغنى في غير مواقعها !!حتى يقول قائلُنا : ليس على الخطيب حرجٌ ، ويحق له ما لا يحق لغيره !!
لماذا يقف الخطيب كشخصيةٍ نمطيةٍ محنطةٍ صارخاً وصادحاً بصوته الجهوري في كلِّ المواضيع والمواضع ؟؟!!
ماذا غيّرتْ الخطبةُ في الناس ؟؟
هل غيّرتْ الخطبةُ في العقول والأفكار؟؟ هل ساهمتْ في استتباب الأمن في الحيِّ نفسهِ حتى نُطالبها أن تُساهم في حلِّ مشاكل الوطن ؟هل كان لها دور في حلِّ العنف في الجامعات مثلا ؟؟
ما هو أثرُ الخطبةِ في الناس وهي عِلْمٌ ودعوة وتوجيهٌ أسبوعي ؟؟
أليس للخطبةِ دورٌ في تشكيل الرأي العام ؟؟ فماذا شكلت ؟ وماذا غيّرت ؟؟
ارتبطت الخطبة في العرب في الجاهلية وقبل الإسلام ، وجاء الإسلام وعززها وسيلةً إعلاميةً للتوجيه والدعوة والتبليغ ، وكانت الخطبةُ تكتسبُ قيمتها من الخطيب وموضوعه ،وكانت تُشدُّ الرِحالُ إليها ،كانت الخُطبةُ فناً أدبياً ، دونتها أمهات الكتب التراثية ، تحمل فكر الأمة وهمومها ، جمعت بين علوم الدنيا والآخرة ، حفظتها القلوبُ وتناقلتها الألسنةُ ، غيّرتْ وساهمتْ في بناء الأمة ، فيها بلاغةٌ في إيجازها أو إسهابها ، وسارت بعضُ جُملها مسارَ الحكمةِ والمثلِ ، وأخذتها الأقلامُ بالدرسِ والتحليل ، كان الخطيبُ سيداً وقائداً ، له الكلمةُ والفعلُ والتأثيرُ ، ويتجسد فنُ الإلقاء فيها ، فلا تسير على وتيرةٍ واحدة ، فلكلِّ عبارة صوتُها وجرسُها ، علواً أو انخفاضاً ، وما لا يؤثر صُراخاً قد يؤثر همساً !!
إن الخُطبةَ تعادلُ ركعتي فريضة لأهميتها ، فكيف يكون التوازن بينهما ؟؟!!
نُقدرُ الخُطباءَ ودَورهم ،ونحن هنا ننتقد قِلةً منهم ولا نُعمم، ننتقدهم حباً لهم ، بل نُطالبُ بتفعيل دَورهم ، في زمن الفضائيات ووسائل الاتصال والإعلام المستعرة، نطالبهم في إحياء النفوسِ ، ورأب الصدع ، نتمنى أن نجد حلَّ مشاكلنا عند الخطيب ، لا أن تصبح الخُطبةُ مشكلةً تُضاف إلى مشاكلنا ، لا نريد أن يكون دَورُ الخطيب أن يقرأ ما كُتِبَ على الورق ، وهو دورٌ يقوم به أيُّ قارىءٍ حتى لو كان طفلاً ، نريد أن يكون الخطيبُ أهلاً لخُطبتهِ قولاً وفِعلاً ، وأن يحترمَ جمهورهُ ويدعوهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ ، وأن يحترم عقولهم ومنازلهم ، وأن يأتي بالمواضيع التي تمسُّ حياتهم وتطلعاتهم ، وأن يَجمع الناسَ على كلمةٍ سواء ، أن يستشعر أنه رسولُ رسولِ الله ، يقفُ على منبره ، يتكلم بكلام الله قرآناً ، وبكلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديثاً ، وبقصص الصحابة والصالحين سيرةً وعِبرةً ، وبمشاكل العصر يعالجها بتوجيهٍ وحكمة !!
نريد للخُطبةِ أن تعود لسابق عَهْدها ، لعلها تُعيد الناسَ إلى سابقِ عهدهم من الصلاح والتقوى ،أن تكون للاستماع والاستمتاع ، للفائدة والعبرة ، أن يكون قولها عبادةً ، والاستماع إليها عبادةً ، أن تكون دعوةً مفتوحةً دائماً للعملِ والبناءِ والتغييرِ الإيجابيِّ نحو الأفضل ، حتى نكونَ- كما كُنا – ولكي نبقى : (خيرَ أمةٍ أُخرجتْ للناس ) .