حق المقاومة وجرائم المحتل ضد المدنيين
خرجت أصوات تنقد طوفان الأقصى بسبب تبنيه استراتيجية المقاومة، وممارستها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ومن ثم تحميله مسؤولية كل ما فعله الكيان الصهيوني وأمريكا من تقتيل للمدنيين، وتدمير للعمران في قطاع غزة.
هذه الأصوات تدين المقاومة المسلحة من حيث أتت، وتطالب بتبني نهج أوسلو السلمي في تحقيق تسوية، على أساس حلّ الدولتين. وقد أثبتت تجربة ثلاثين عاما في تبني نهج أوسلو، أن نزيف الدم، ولا سيما في الانتفاضة الثانية 2000-2005، لم يتوقف، وأن السلطة لم تنتقل لتصبح دولة، أو دويلة، وصار المطلوب أن تصبح حامية للاحتلال، ولتجعله احتلالا بخمسة نجوم، كما اشتهر وصفه.
ولكن الأشد خطورة من كل ما تقدم، يتمثل بتوسع في الاستيطان ومصادرة الأرض والبيوت في الضفة الغربية والقدس بما يزيد عن استيطان 800 ألف مستوطن فيهما (الضفة والقدس)، يعني فقدان أراضٍ جعل من غير الممكن حتى إقامة دويلة، تحقيقا للهدف من أوسلو.
ولهذا لا يحق لمن تخلّوا عن سلاح المقاومة وسحبوه من أيدي فتح وفصائل م.ت.ف، أن ينبسوا ببنت شفة في نقد طوفان الأقصى والمقاومة.
وخرجت أصوات بعضها يدعي بأنه يؤيد حق الشعب الفلسطيني في ممارسة كل أشكال النضال، بما فيها المقاومة المسلحة، وبعضها عن براءة وحسن نية، راح ينقد طوفان الأقصى، وحمّلها مسؤولية الردّ الأمريكي- الصهيوني عليه، وتحديدا ما تعرض له أهل قطاع غزة من قصف طيران للمدنيين، تقتيلا جماعيا، وتدميرا لبيوتهم وللمساجد، والكنائس والمدارس والمشافي. وهو ما ينطبق عليه جرائم إبادة بشرية، وجرائم حرب، وانتهاكات فاضحة للقوانين الإنسانية الدولية. ووصل الأمر إلى ارتقاء عشرين ألف شهيد، وخمسين ألف جريح، وعشرات الآلاف من المنكوبين بفقدان أهليهم وأحبتهم، وحوالي 60 في المئة من العمران في قطاع غزة، تدميرا كاملا أو شبه كامل.
هؤلاء يهمسون، وبعضهم بخجل، بأن المسؤول عن كل ذلك هي عملية طوفان الأقصى، خصوصا ما نجم عنها من هزيمة مروعة لنخبة جيش الكيان الصهيوني (فرقة غزة) والمستوطنات في غلاف قطاع غزة، وهي جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة في 1948/1949.
والسؤال: هل تتحمل عملية طوفان الأقصى، التي بلغت أعلى مستوى في مقاومة جيش الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه، أيّة مسؤولية عن ردة فعل قادة الكيان الصهيوني وقادة أمريكا، بارتكاب جريمة إبادة بشرية (مجزرة جماعية) دامت 75 يوما، إلى الآن، وبلا توقف، وبصورة متواصلة، ليلا نهارا، كما لم يحدث مثلها من مجزرة على الأرض الفلسطينية منذ 1917 إلى اليوم؟
يخطئ الذين يحمّلون مقاومي الاستعمار حيثما -وُجِد استعمار- منذ خمسة قرون، مسؤولية ردود فعل الاستعمار المعني، أكان بريطانيا أم فرنسيا أم إيطاليا أم أمريكيا أم هولنديا (أوروبيا عموما وأضف اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أو قبلها في بعض البلدان)، وبهذا تدان كل حالة مقاومة مارسها الشعب أو طلائعه ضد الاستعمار المعني.
هؤلاء يقلبون الحق، وما هو عادل، على رأسيهما، لأن شعبا يتعرض للاحتلال، أو ما هو أقسى من الاحتلال، كحال الشعب الفلسطيني الذي يواجه مشروعا استعماريا- استيطانيا- اقتلاعيا- إحلاليا- عنصريا، من حقه أن يقاوم الاحتلال بكل أشكال المقاومة، ولا يجوز أن يحمل مسؤولية أي رد فعل يقوم المُحتَل المعني بها.
وإن من عادة المحتل أن يأتي رد فعله مضاعفا عدة أضعاف، ومتوسعا جدا، بما يشمل من لا علاقة مباشرة لهم، وصولا إلى الشعب جزئيا أو "كليا". هذا ما حصل على سبيل المثال مع السكان المدنيين في الولايات المتحدة في حرب الاستقلال، وذلك مثلا عندما أحرقت بريطانيا مدينة واشنطن، أو عندما راحت تعاقب المدنيين وتوقع ما شاءت بهم، تقتيلا وتدميرا وحرقا، واعتقالات وتعذيبا في السجون.
وهذا ما حدث في كل الدول الأوروبية التي احتلتها جيوش ألمانيا النازية الهتلرية، ابتداء من الاتحاد السوفييتي، ومرورا ببلجيكا، وصولا إلى فرنسا، فكل عملية مقاومة قوبلت بردّ فعل يتسّم بالقتل الجماعي. ففي الاتحاد السوفييتي مثلا امتدّ قتل المدنيين إلى عشرين مليونا، ومن الجيش خمسة ملايين، وفي فرنسا يفتخر الحزب الشيوعي الفرنسي أنه قدّم نصف مليون قتيل.
ثم بالمناسبة، هل يستطيع أحد أن يحمّل تشرشل مسؤولية ما حصل في لندن، من دمار وقتلى بقصف الطيران الألماني في الحرب العالمية الثانية، عندما كان هتلر يحاول احتلالها أو تأديبها وهي تقاوم؟
وإذا جئنا إلى المجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي، وهو يعاقب المدنيين، بسبب كل فعل مقاومة، سندخل بأرقام مليونية، في الجزائر وفيتنام ولاوس وكمبوديا، وكذلك الحال بالنسبة إلى إيطاليا في ليبيا والحبشة. وأما الاستعمار البريطاني، فله السبق في المجازر التي ارتكبت في الهند وسيلان وماليزيا وبورما بسبب المقاومة، وفي الهند كانت لا عنفية. أيضا في الجزائر قتل 50 ألف شهيد ردا على تظاهرات سلمية عام 1945.
ثم لا تسل عن ردود فعل الاستعمار الياباني في الصين وكوريا، إزاء الرد على المقاومة حيثما واجهها. وهنا توقفنا قنبلتا هيروشيما وناجزاكي والحجّة الأمريكية في تسويغهما.
والأنكى أن تسمع أحدا من فتح، إن كان فعلا من فتح المقاومة والطلقة الأولى، يذهب إلى حد اتهام المقاومة بأنها مسؤولة عن الجرائم التي ارتكبت بحق أهالي قطاع غزة، من قِبَل قيادة كل من نتنياهو وبايدن، لأن مثل هذا الاتهام يبرئ مجرمي الإبادة ومجرمي العدوان من جرائمهم التي هي مسؤوليتهم وحدهم، وذلك باتهام المقاومة بأنها هي التي دفعت إلى ارتكاب الجرائم بسبب هزيمة الجيش المنكرة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر على يد المقاومة. وسيّان المساواة بينهما في المسؤولية، لأنها مسؤولية المحتل المعتدي وحده.
إذا كان الفعل المقاوٍم مسؤولا عما يرتكب العدو من جرائم ضد المدنيين، فماذا سيفعلون بتأريخ فتح نفسها مثلا، عندما شنّ العدو حرب 1978 ضد المقاومة والمدنيين في لبنان، بحجة الرد على عملية دلال المغربي التي أشرف عليها الشهيد أبو جهاد؟ وهل الشهيد ياسر عرفات هو المسؤول، بسبب استخدامه سلاح الكاتيوشا، عن المدنيين الذين قتلهم الكيان الصهيوني في حرب 982؟ هذا ولا حاجة إلى المزيد من الأمثلة.
من هنا، على هذه الأصوات ألا تحوّل تاريخ فتح المقاوم إلى مسؤول عما ارتكبه جيش العدو، من جرائم بحق المخيمات والمدنيين، وهي تتهم طوفان الأقصى بمسؤولية جرائم العدو الصهيوني.
القانون العام، والمبدأ العام، والسنّة الجارية، كل بلغته، يقول إن المقاومة ضد الاحتلال مشروعة، ومبدئية، وواجبة، وبلا شروط، وبأيّ حجم، وبأيّ مقدار، وصولا إلى الحرب الشاملة. وإن كل ما يردّ به العدو، مهما كان حجمه ومقداره وفداحته، هو وحده المسؤول عما يرتكِب من جرائم بحق المدنيين، أو إنزاله لعقوبات جماعية. وكل من يعتبر أن فعلا للمقاومة هو المتسبب لما يفعله قادة الاحتلال، يضع الحَبّ في طاحونة الاحتلال. ولا تنجيه من ذلك براءة سريرته أو حسن مقصده، فالعدو المحتل هو المجرم من حيث كونه محتلا، فاقدا لحقِّ الدفاع عن النفس، ولا حقّ له بقتل المقاومين. فكيف بالمدنيين؟ وكيف إذا فقد صوابه، وشنّ حرب إبادة بشرية لا تبقي ولا تذر؟
وسوم: العدد 1063