تركيا من الاستقرار إلى الاستنفار
إطلالة شاملة على المشهد التركي
د. سعيد الحاج
خلال أحد عشر عاماً من حكم "حزب العدالة والتنمية"، انتقلت تركيا من دولة تابعة، منهكة ومغمورة إلى قوة إقليمية ولاعب دولي مهم، على وقع الإصلاحات الديموقراطية، والتنمية الاقتصادية وإبداعات مُنظر سياستها الخارجية (أحمد داود أوغلو)، لا سيما نظرية "تصفير المشاكل" مع دول الجوار. لقد سارت تركيا بخطى ثابتة، بطيئة حيناً وسريعة أحياناً أخرى، نحو المكانة التي تحتلها حالياً، لكنها تبدو اليوم أمام مفترق طُرق وعلى شفا عِدة (سيناريوهات)، تأثراً ببعض الملفات المحلية والإقليمية والدولية التي اجتمعت معاً لتُشكل، ولو نظرياً، إحتمالاً لتهديد الاستقرار والنمو المضطرد الذي شهدته تركيا على مدى هذه الأعوام.
الأزمة السورية وتصفير المشاكل
بعد سنوات الإنفتاح التي انتهجتها تركيا وشملت العالم العربي خصوصاً من البوابة السورية، وبعد نجاحات مذهلة حققتها نظرية (أحمد داود أوغلو) في تسوية النزاعات مع دول الجوار ـــــ ومنها العراق، إيران، اليونان، أرمينيا، وسوريا ـــــ جاء "الربيع العربي"، والثورة السورية تحديداً، كحائط سد أمام هذه النظرية، وما لبثت تركيا أن وجدت نفسها بحاجة إلى نظرية أو سياسة أخرى، لتُنفذ المبادئ التي تُنظر بها من جهة، ولتحفظ مصالحها من جهة أخرى، ولتحمي صفها الداخلي من نيران الثورة وارتداداتها من جهة ثالثة.
فإلى جانب موقفها الإنساني من اللاجئين السوريين على أراضيها (الضيوف كما يحلو للأتراك أن يُرددوا)، كان الموقف السياسي للحكومة التركية متضاداً مع محور إيران (إيران ـــــ العراق ـــــ النظام السوري)، ولكنه ظلَّ في نفس الوقت متمايزاً عن الموقف الغربي، وقد اتضح ذلك جلياً في أزمة السلاح الكيماوي السوري. كما كان الموقف الرسمي التركي واضحاً، حاد الخطاب ومرتفع السقف إزاء الإنقلاب في مصر، مما زاد في الغضب الغربي من إسـتقلاليـة السـياسـة الخارجيـة التركيـة واحتماليـة شـبوبها عن طوق المنظومـة الغربيـة، وانعكـس ذلك على عِدة ملفات سـنُشـير إليها.
الناتو وصفقة السلاح
رغم ما تُمثله من قوة إرتكاز لحلف شمال الأطلسي في المنطقة كذراع متقدمة، فقد شهدت علاقات تركيا مع الأخير توتراً كبيراً خلال الأسابيع الماضية، بسبب صفقة صواريخ عقدتها تركيا من الصين؛ حيث هاجم إعلام دول الحلف تركيا بشكل مبالغ به معتبراً أنها تضر إستراتيجياً بالحلف وتخرق قوانينه، فيما دافعت تركيا عن موقفها باعتبار أن ما فعلته حق لها وله سوابق عدة، وأنها اضطُرت لتفضيل الصفقة الصينية على الأمريكية بسبب تضمنها إعطاء التقنية/الشيفرة مع الصواريخ ولفرق التكلفة الكبير بين الإثنتين. مراقبون كُثر رأوا في موقف الغرب من تركيا تحيزاً وضغطاً بسـبب نزعـة الأتراك مؤخراً للإسـتقلاليـة في مضامير السـياسـة الخارجيـة.
عملية السلام وأزمة رئيس المخابرات
بعد عشرات السنوات من التنكر لحقوق الأكراد والاعتراف بهم عِرقاً ولغة وثقافة كأحد مكونات الشعب التركي، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من العمليات الكردية العسكرية، وإثر التدرج في عدد من القوانين التي أعطتهم شيئاً من حقوقهم الثقافية والاجتماعية، وعلى وقع مشاريع اقتصادية كثيرة وكبيرة اهتمت بجنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية، بدأ "حزب العدالة والتنمية" الحاكم ما أسماه "عملية السلام" لإعطاء الأكراد كامل حقوقهم مقابل إلقاء "حزب العمال الكردستاني" للسلاح! عملية كهذه، بما تحمله من آثار إستراتيجية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية لتركيا، أثارت مخاوف العديد من القوى الخارجية المتهيبة من نموها المُطرد، مما أثار موجة تحريض ضد مهندس الإتفاق مع "حزب العمال الكردستاني" رئيس الإستخبارات التركية السيد (هاقان فيدان). فقد تعرض الأخير لتحريض واضح ومكثف من بعض الصحف الغربية الكبيرة ومنها الـ (واشنطن بوست)، التي اتهمته بأنه ذراع "للحرس الثوري الإيراني" وداعم "للقاعدة" في سوريا، على خلفية إبلاغ الإيرانيين بداية عام 2012 عن خلية إستخباراتية إيرانية تعمل لصالح الـ (موساد) الإسرائيلي كانت تجتمع في تركيا.
الملفت للنظر أن (فيدان) نفسه كان قد تعرض لهجمة من قوى محلية ووسائل إعلامها قبل أشهر، بل صدر قرار باستجوابه وظهرت مطالبات بمحاكمته بتهمة الخيانة بسبب الإتصال مع "حزب العمال الكردستاني"، مما اضطُر (أدروغان) والرئيس (غل) وقتها لإصدار قانون يُحصن منصب رئيس المخابرات من الإعتقال والتحقيق إلا بأمر مباشر من رئيس الوزراء وأمام محكمة خاصة. الدوائر القريبة من الحزب الحاكم رأت فيما سبق وما يجري حالياً محاولة لاستهداف (أردوغان) والحكم الحالي من بوابة (فيدان)؛ رجل (أردوغان) القوي وذراعه الأيمن.
المظاهرات وأزمة الحجاب
بعد زوبعة مظاهرات واحتجاجات "ميدان تقسيم" قبل أشهر كان متوقعاً حسب التسريبات الحكومية تنفيذ بعض القوى اليسارية المحظورة لمظاهرات مشابهة مع بداية العام الدراسي أوائل الشهر الحالي، لكن التحركات الأخيرة بقيت محدودة ودون ظهير شعبي، خصوصاً بعد ان نحت منحى تخريبياً. اليوم تطفو على السطح إرهاصات أزمة سياسية بين الحزب الحاكم وأكبر أحزاب المعارضة "حزب الشعب الجمهوري" بسبب نية ثلاث نائبات من الأول إرتداء الحجاب تحت قبة مجلس الأمة بعد عودتهنَّ من رحلة الحج، وعزم حزب الثاني رفض ذلك ومنعهنَ من تنفيذه.
وفيما تُحذر تقارير الإستخبارات التركية وأجهزة أمنها من مخططات للمجموعات المرتبطة تنظيمياً "بحزب العمال الكردستاني" ـــــ يُشاع أن لها إرتباطات مع إيران والنظام السوري ـــــ لاستغلال أي توتر سياسي في البلد لتنفيذ عمليات إنتحارية أو تفجيرية لنسف "عملية السلام"، يخشى عدد من المطلعين أن تكون الأزمة السياسية المفترضة الذريعة التي ينتظرها هؤلاء.
الإنتخابات وغياب أردوغان
بعد ثلاث معارك إنتخابية زادت فيها شعبية "حزب العدالة والتنمية" باستمرار وبلا منافسة تُذكر، تبدو الإنتخابات المحلية المقبلة في الثلاثين من شهر آذار/مارس 2014، ثم البرلمانية عام 2015 مختلفة لأسباب كثيرة، على رأسها اعتزام (أردوغان) عدم الترشح مجدداً ضمن ما ألزم به نفسه وأعضاء حزبه من خلال نظام الحزب الداخلي، رغم سماح القانون التركي له بذلك، دون ظهور (سيناريوهات) واضحة لخلافته أو لأسماء محددة بعينها.
وتُشير كثير من إستطلاعات الرأي إلى أن غياب (أردوغان) عن صدارة المشهد السياسي قد تؤثر في شعبية الحزب وتحرمه من عدد لا بأس به من الأصوات والمقاعد في البرلمان القادم، بينما تُظهر إستطلاعات أخرى استمراره بالصدارة والقدرة على تشكيل الحكومة منفرداً حتى بغياب مؤسسه وقائده صاحب الـ (كاريزما) والفضل الأكبر في شعبية الحزب ونجاحه حتى الآن.
لكن الإنتخابات، كما في كل النُظم الديموقراطية، تبقى صندوقاً مغلقاً، مفتوحاً على كل الإحتمالات، وتبقى المسيرة نحوها محفوفة بالتوترات السياسية والمنافسات الحزبية، ويبقى المشهد التركي ما بعد الإنتخابات القادمة في عالم المجهول، حتى ولو كان هنالك بعض الإشارات والقرائن على النتائج المرتقبة.
خلاصة الأمر أن ملفات عديدة وكبيرة اجتمعت في فترة زمنية متقاربة لتجعل المشهد السياسي التركي أكثر دينامية وسخونة على المدى القصير والمتوسط، وعلى أبواب إستحقاقات مختلفة، ربما يكون من شأنها التأثير على بعض الملفات الكبرى داخلياً وخارجياً، على رأسها السياسة الخارجية التركية، التي كانت في الفترات الماضية مثيرة للجدل ومثاراً لانتقاد البعض بهذه الدرجة أو تلك.