خطف الهولوكوست
لم أستطع للأسف، حضور رائعة جوناثان جليزر «منطقة الاهتمام/ ذا زون أوف إنتريست» الذي قال فيه ستيفن سبيلبرج، مخرج «قائمة شندلر»، بأنه أفضل فيلم عن الهولوكوست.
أعاد المخرج البريطاني اليهودي جليزر الهولوكوست إلى الساحة الفنية بصفته حدثاً إنسانياً كبيراً، وحرره من خاطفيه الذين أرادوا تحويله إلى إحدى أدوات السيطرة الصهيونية على فلسطين ووسيلة لتخجيل العالم ومنعه من نقد إسرائيل.
قال جليزر في كلمته وهو يتسلم «الأوسكار عن أفضل فيلم دولي» إنه لم يصنع فيلماً عن الهولوكوست، بل صنع فيلماً مزدوج الأهداف:
الهدف الأول هو استعادة الهولوكوست من خاطفيه الصهاينة ووضعه في إطاره الإنساني كحدث يمس البشرية جمعاء.
الهدف الثاني، وهو الأهم، يتمثل في جعلنا نفهم أننا نعيش اليوم في جوار الهولوكوست وأننا جميعاً نتحمل مسؤولية المذبحة الدائرة.
لم يكن جليزر ملتبساً في تسمية صانع هذه المذبحة، فأشار بإصبعه إلى الجيش الإسرائيلي بصفته وريث النازيين الذي يتابع ما بدأوه خلال الحرب العالمية الثانية.
المذهل في هذا الكلام ليس الجرأة، بل النبل الأخلاقي والقدرة على تقديم رؤية جديدة لتاريخنا.
السينمائي البريطاني استعاد تاريخ الهولوكوست من خلال سيرة حياة القائد النازي رودولف هيس الذي كان يدير معسكر أوشفيتز الرهيب، لا لينتقد الألمان فقط بل ليلقي ضوءاً على الشرط الإنساني الذي جعل من الاستعباد جزءاً من «تفاهة الشر» التي تتحكم بحياتنا.
مهاجمو الفيلم لم يفهموا مقاصده العميقة، هذا فيلم عن غزة لكنه ليس عن غزة، إنه عن الإنسان. حين يقول مخرجه إن الهدف ليس تذكر الهولوكوست بل التأكيد أننا نعيش في ظلاله الآن، وأن غزة هي النموذج الذي تصنعه إسرائيل كي تدخل في قائمة عار الإبادة، فهذا يعني أننا أمام لحظة بالغة الخطورة من التاريخ الإنساني.
إنها لحظة تحويل فلسطين إلى رمز عالمي، وهذا ما كان يجب أن يحصل منذ خمسة وسبعين سنة. لكن يبدو أن على الشعوب أن تدفع ثمن إيصال صوتها دماً وأن تغير المعادلة بألوف الضحايا.
تذكرت وأنا أستمع إلى جليزر كلام فانيسا ريدجريف، الممثلة البريطانية الشهيرة التي نالت جائزة الأوسكار وأشارت في خطابها إلى الهولوكوست، رغم يهوديتها، كيف سرت همهمات معادية لها في القاعة. فالهولوكوست كان حكراً صهيونياً والكلام عنه كان محصوراً بفئة معينة، ما دفع الكاتبة البريطانية نعومي كلاين إلى الكتابة على صفحات الجارديان بأن شعار «لن يتكرر مرة ثانية» يخص اليهود فقط ولا يشمل الإنسانية بأسرها.
هذا ما أعاد تصويبه فيلم «منطقة الاهتمام/ ذا زون أوف إنتريست» عبر إعادة السؤال إلى أوله وطرحه كجزء من السؤال الإنساني.
كان في استطاعة المخرج أن يقول كما يقول الكثيرون بأننا «انفلقنا من الهولوكوست» غير أن ابن الناجين اليهود الأوكرانيين لا يستطيع أن ينسى، لكنه بدل أن يحشو ذاكرته بديناميت الانتقام ويقرر كالكثير من أقرانه استبدال الضحية اليهودية بالضحية الفلسطينية، قرر أن يحافظ على الروح الإنسانية العميقة مدافعاً عن حق غزة في الوجود والمقاومة.
يتراءى لي أن هذا الفيلم هو للقراءة وليس للمشاهدة. نشاهده بعيون عقولنا وأفكارنا ونطرح على أنفسنا الأسئلة الكبرى المرتبطة بالتاريخ الأوروبي. فأوروبا لن تتخلص من عقدة ذنب الهولوكوست إلا إذا تخلصت من عقدة نقصها اتجاه إسرائيل.
إسرائيل تشكل اليوم عائقاً أمام فهم الهولوكوست وتحليله وقراءته بشكل عقلاني.
ثم يأتيك مخرج بريطاني يهودي أبيض ليقول إنه يريد تحرير الهولوكوست من خاطفيه ومن المصيدة التي اصطادوه بها من خلال تحويله إلى غطاء للاحتلال الإسرائيلي، فهذا في رأيي حدث ثقافي كبيريتفوق على جميع المثقفين الإسرائيليين الذين سكتت أغلبيتهم أو أسكتت وفضلوا الصمت أو نصف الصمت على الكلام.
وسوم: العدد 1073