العراق: مناهج التعليم وتطييف الدولة!

في عام 2011 أنجزتُ رفقة فريق بحثي مساعد، دراسة عن مناهج التعليم في العراق، بالتعاون مع جامعة لندن. وقد تناولت الدراسة المقررات المدرسية لمادتي التربية الإسلامية والتاريخ الإسلامي، فضلا عن دراسة ميدانية للآلية التي تدرس فيها هذه المقررات في المدارس العراقية.

وقد انتهت الدراسة إلى أن مناهج التعليم التي اعتمدتها الدولة العراقية بداية منذ 1921 وحتى العام 2003 فشلت في توحيد العراق ثقافيا، كما كان يسعى لذلك الملك فيصل الأول الذي كان يرى أن الدولة في العراق تقوم على ركنين أساسيين هما التعليم والجيش. وكتب في مذكراته أنه يريد، (بسبب من عدم وجود أي فكرة وطنية) أن يشكّل «شعبا نهذبه وندربه ونعلمه».

وهكذا، وبدلا عن سياسات التعليم المعلنة، كنا بإزاء مناهج تكرس الاختلاف، وتعزز الانقسام، وتغرس الإحساس بالتهميش بإزاء خطاب السلطة ذي التوجهات الإيديولوجية. لقد بنيت المناهج على أساس هوية الدولة السنية، مع محاولات من هنا وهناك لتجاوز الخلافات ذات الطبيعة الإثنية والمذهبية ما أمكن. لكن هذه المحاولات لم تنجح، وشهد تاريخ التعليم الحديث الكثير من المواجهات بسبب ذلك.

وبعد عام 2003 ظهرت إشكالية أكبر بسبب طبيعة الطبقة السياسية التي جاءت بعد الاحتلال؛ حين أنتجت هذه الطبقة مناهج تلفيقية أحدثت فوَضى حقيقية في التعليم، حين حاولت التوفيق بين المقررات الموروثة ذات المرجعية السنية، مع أخرى مستحدثة ذات مرجعية شيعية، دون معالجة الاضطراب والتناقض اللّذين أنتجتهما هذه الحلول التلفيقية!

وقد حاولنا من جانبنا تقديم رؤية مختلفة عام 2011 من خلال تنظيم مؤتمر موسع بالتعاون مع وزارة التربية، آنذاك، عقد في مقرها، لعرض نتائج دراستنا التي أشرنا إليها، ومناقشة مخرجاتها، وكان اقتراحنا حينها أن الحل الأمثل الذي يمكن اعتماده هو التأسيس لمناهج تؤمن بالاختلاف، وباحترام هذا الاختلاف. وتؤمن بالنسبية، وبفكرة أنه ليس ثمة حقيقة واحدة مطلقة، أو تأويل واحد، أو تاريخ واحد، أو سردية واحدة، أو خطاب واحد فيما يتعلق بمدونتي التربية الإسلامية والتاريخ. وأنه يجب أن نعمد إلى إعادة صياغة مناهج التربية الدينية ودرس التاريخ الإسلامي، وربما بعض من مواد التاريخ الحديث من المناهج الدراسية بصيغتها الحالية، لأنها تعيد إنتاج الخلافات، بل وتكرسها.

لكن الموضوع لم يلق استجابة، وكان واضحا أن الدولة العراقية التي تشكلت بعد عام 2003، والتي قامت على قصر نظر القائمين عليها، ومعتمدة في وجودها واستمرارها على صراع الهويات الفرعية (القومية والدينية والمذهبية) والاحتكام إلى علاقات القوة، كانت تفكر أساسا، في جعل مناهج التعليم والمقررات المرتبطة به، أداة في هذا الصراع، ولم تكن معنية بالتفكير العقلاني حول النتائج التي تترتب على ذلك.

الواقع أنه ثمة محاولة منهجية للعودة إلى السياسة نفسها التي حكمت مناهج التعليم ومقرراته في بداية نشأة الدولة العراقية، أي فرض مدونة أحادية، وسردية أحادية على الدولة العراقية، لكن هذه المحاولة هي اليوم، ذات حمولة شيعية. ولا تقتصر على التعليم الأولي، بل تشمل التعليم العالي أيضا!

لذلك نجد كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد مثلا، تصدر كتابا رسميا نقول فيه: «يحذف الاستشهاد في الرسائل والأطاريح والتدريس والمناهج الدراسية والكتب المساعدة أينما ورد ذكر لابن تيمية وابن قيم الجوزية وكذلك أي كتاب مثير للفرقة والتجزئة»! وكان يمكن أن يكون الأمر منطقيا ومفهوما لو أن قرار المنع هذا شمل كل الأسماء التي لديها كتب، او إشارات «تثير الفرقة والتجرئة» (وكثيرٌ منها موجود ويحتوي على خطاب تكفيري صريح أو في الأقل فيه خطاب كراهية) لكن الاقتصار على اسمين محددين، وكلاهما ينتميان لمذهب محدد يعني أن هناك سعيا منهجيا لاحتكار المجال العام، وفرض سردية دون أخرى، وتأويل احادي دون آخر تبعا لتحيزات مذهبية وسياسية واضحة!

وفي مقابل هذا الحظر، سنجد وزير التعليم العالي والبحث العلمي (ينتمي إلى عصائب أهل الحق) يصدر أمرا الى الجامعات كافة، الرسمية والأهلية، باعتماد المصادر والمراجع «المؤلفة من قبل علماء ومفكرين عراقيين… ككتب منهجية أساسية «. وسنجد أن هذه الكتب تتضمن12 كتابا للسيد محمد صادق الصدر، والسيد محمد باقر الصدر موزعة على تخصصات العلوم الإسلامية، والعلوم الإدارية والاقتصادية، والعلوم السياسية، والقانون، والآداب، والتربية للعلوم الانسانية!

وبعيدا عن مدى علمية تخصيص مصادر ذات طبيعة دينية بحتة لتخصصات غير دينية، او مدى علمية اعتماد مصادر محددة لأكثر من اختصاص في آن واحد، فإن السؤال المنطقي كيف يمكن فهم فرض مصادر ذات مرجعية شيعية صريحة، ولشخصيات ترتبط بها أحزاب سياسية (ما زال حزب الدعوة يعد السيد محمد باقر الصدر أحد مؤسسيه، كما أن التيار الصدري وحزب/ مليشيا وزير التعليم العالي نفسه يعد السيد محمد صادق الصدر مرجعا دينيا وسياسيا له) على جامعات رسمية وأهلية يدرس فيها طلبة من مذاهب مختلفة، وبعضها يقتصر على طلبة ينتمون لمذهب آخر تماما!

لأعطي مثالا واحدا، في الجزء الأول من كتاب «منة المنان في الدفاع عن القرآن» الذي خصص كمنهج تطبيقي مساعد لمادة مناهج المفسرين، نقرأ النص الآتي في معرض تفسيره لسورة الزلزال، وفي محاولة شرح ما يقوله القاضي عبد الجبار حول مفهوم «الطاعات» وأن «الكفار والفسقة» ليس لهما طاعات إطلاقا، فيتحدث عن ثلاثة تقريبات لمعنى هذا الحكم، منها أنه: «لا تقبل طاعة عبد إلا بولاية أهل البيت، ومعه فإن كانت الولاية موجودة فالطاعة موجودة او أن العمل طاعة فعلا. وإلا لم يكن طاعة، وإن توهم ذلك»! وهو ينقل هذا عن أحد أكثر الكتب الشيعية إثارة للجدل وهو «بحار الأنوار» للمجلسي. والنص الأصلي الذي ورد فيه كان تحت فصل بعنوان «أنه لا تقبل الاعمال إلا بالولاية» وفي شرحه لسورة طه يقول: «أعمال الكفار باطلة، والأخبار المستفيضة وردت بإطلاق الكافر على المخالفين لإنكارهم النصوص على الأئمة عليهم السلام»! وينقل عن تفسير القمي قوله «من لم يقر بولاية أمير المؤمنين بطل علمه، مثل الرماد الذي تجيء به الريح فتحمله»!

كيف يمكن فرض تدريس هكذا نصوص على طلاب ينتمون لمذاهب أخرى، من دون الخوض في طبيعة هذا الخطاب؟ وكيف سيتعامل الأساتذة والطلبة في الكليات التي ذات لون مذهبي واحد مختلف مع هكذا خطاب؟

لا يمكن فصل هذه السياسة، عن محاولات أخرى لا تقل منهجية لفرض هوية أحادية على الدولة، من بينها مشروع قانون «عيد الغدير» وهي سياسة خطيرة لأنها ستعني عمليا أن الدولة مرة أخرى تتبنى مدونة دون أخرى، وسردية دون أخرى، وتسعى لتطييف الدولة نفسها، بدلا من أن الدولة محايدة تجاه مواطنيها، وهذه وصفة للخراب!

وسوم: العدد 1079