ليس صاحبَ مبدأ من لا تُصدِّق أفعالُه أقوالُه
إذا كان التعارف بين البشر ضرورة إنسانية مصداقا لقوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، فإن الكلمة من بين أهم آليات التعارف، بشقيها المنطوق والمكتوب، غير أن هذه الكلمة قد تكون معبرة عن حقيقة صاحبها إذا كانت صادقة، وقد تكون غير ذلك إذا كان الهدف منها هو التمويه والظهور بمظهرٍ مجانب للحقيقة، ومن ثم يتعين الاحتكام إلى كيفية تجسيدها على أرض الواقع لمعرفة مدى انسجام القول مع الفعل، حتى تكتمل أركان المعرفة بالآخر، بحيث إما أن يُصدِّقَ فعلُه قولَه، مما يؤشر على أنه صاحب مبدأ يتم على ضوئه التعارف أو التعامل معه اتفاقا أو اختلافا، وإما أن يُكذِّبَ عملُه قولَه، بحيث تنطبق عليه إحدى أو مجموع صفات المنافق التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، مما يعيق عملية التعارف معه، أو يجعلها على أقل تقدير مُحاطة بمجموعة من المخاطر، حتى في حالة أخذ كل الاحتياطات الممكنة.
وإذا كان النفاق هو السمة الأساسية التي طبعت علاقة العدو الصهيوني بالعرب عموما، وبالفلسطينيين خصوصا، وهو ما برهنت عنه مآلات كل الاتفاقات التي تم توقيعها معه، من مثل أوسلو، ووادي عربة وواي ريفر... فإن هذه الصفة تبقى حاضرة بقوة في علاقة الأنظمة الغربية عموما، بالعرب والمسلمين، طمعا في استغلال خيراتهم التي وهبهم الله إياها، باعتماد ما يطلقون عليه القوة الناعمة عوض النفاق والخداع، وهو ما برهنت عليه أحداث غزة، التي كشفت بالملموس عن مدى تناقض تصريحات عدد من المسؤولين الغربيين مع أفعالهم على أرض الواقع، ذلك أنه على الرغم مما قد يبدو تراجعا عن مواقفهم في شأن الإبادة الجماعية لأهل غزة، من خلال الدعوة إلى السماح بتمكينهم من المساعدات الإنسانية، فإن أفعالهم المتجسدة في تزويد العدو الصهيوني حتى التخمة بمختلف الأسلحة، ووسائل الدمار الشامل، تتناقض كليا مع بعض التصريحات الغامضة التي لا تعدو أن تكون نفاقا، ومغازلة، للمتظاهرين الذين اكتشفوا حقيقتهم وحقيقة العدو الصهيوني الذي، لو وُجِدت جائزة للنفاق، لفاز بها عن جدارة واستحقاق.
مما سبق، يبدو أن النفاق معطى ثابتا في علاقة الغرب مع العرب والمسلمين، مما لم يُبقِ للأنظمة العربية والإسلامية أي مسوغ لمغازلة، ومجاراة العدو الصهيوني ومن يقف معه، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا المبدئية، من مثل القضية الفلسطينية بصفة عامة، والمسجد الأقصى بصفة خاصة، لكونه وقفا أبديا للأمة الإسلامية، لا يجوز التفريط فيه بأي حال من الأحوال، ومن مثل المرجعية الإسلامية المنصوص عليها في دساتير جل الدول العربية والإسلامية، بالإضافة إلى الثوابت الوطنية، من قبيل مركزية قضية الصحراء بالنسبة للمغاربة، ومسألة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن من جهة ولغة وطنية من جهة ثانية...
ونظرا للأثر الذي تتركه في واقع الناس أفرادا وجماعات، شعوبا وحكومات، كان لا بد من الإحساس بأهمية الكلمة، ومسؤوليتها في طبيعة العلاقات التي تنسجها بين مختلف الشرائح المجتمعية الموجهة لها، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما تترتب عنه ضرورة التحقق من مدى التجسيد الفعلي لصاحبها لها على أرض الواقع، ولعل هذا ما يستشف من قوله تعالى في الآية 14 من سورة الحجرات:﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، ذلك لأن الإسلام يرتبط بتصريح قولي، فيما يتميز الإيمان بتصديق العمل للاعتقاد والقول معا، تماشيا مع القول الذي يُنسب على الأرجح للإمام الحسن البصري حيث قال: "ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل". وفي هذا السياق وعملا بقاعدة "العبرة بعموم الفظ لا بخصوص السبب"، يتعين استحضار خطورة عاقبة عدم انسجام أقوال المؤمنين مع أفعالهم من خلال تدبر قوله تعالى في أوائل سورة الصف:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾، وهو ما يتضح من خلاله أن من صفات المؤمن انسجام قوله مع فعله، وإلا انسحب عليه الحديث النبوي المشار إليه أعلاه، واستحق مقت الله وغضبه، ولعل هذا ما قصده الإمام الشافعي في البيتين التاليين :
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَـــهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
مناسبة هذا المقال هو التصريح الذي أدلى به الطاهر بنجلون أثناء فعاليات المعرض الدولي للكتاب المُقام بالرباط من 9 إلى 19 ماي 2024، والذي استوقفني فيه قوله بأنه "يدعم الملك" بخصوص التطبيع مع إسرائيل، وادعاءه بأن جرائم إسرائيل كانت نتيجة لما قامت به حماس، واصفا سياستها بالغباء، مع العلم أنه وصف مجاهدي حماس بالحيوانات في بداية طوفان الأقصى. وإني لأتساءل إن لم يكن هذا هو النفاق والجبن الخالصين فماذا عساه أن يكون؟ فما معنى الاختباء وراء جلالة الملك بالقول بأنه "يدعمه" وهو الذي لا يحتاج لا لدعمه ولا لدعم أمثاله، سوى خلط الأوراق وزرع بذور الشك في موقف جلالته من القضية الفلسطينية، لتمرير خطاب الانهزام والاستسلام للعدو الصهيوني، عوض شحذ الهمم لبذل الغالي والنفيس في سبيل التحرر من كل أشكال الاستعمار المادي والمعنوي على السواء، والأخطر في الممارسات النِّفاقية لهذا الرجل هو توجيه كتاباته للأطفال، على غرار ما تقوم به بعض المنظمات الدولية التي تُعنى بشأن الطفولة، لأنه يعلم قابلية شخصيتهم للتَّشكُّل بحسب ما يُمَرَّر لهم من "قيم ومبادئ" وهو ما يتضح من قوله: "الأطفال جمهور يَهمني لأنه يسمع ويتعلم. أما الراشدون فيكون الوقت قد مرّ؛ لأن العنصري في خمسين سنة عنصري، وسيبقى يكره المسلمين والعرب". وانطلاقا من مفهوم المخالفة، يتضح أنه يرغب في أن يُربَّى أطفال العرب والمسلمين على نبذ وكره كل ما له علاقة بالمقاومة، والحفاظ على خصوصياتهم وثوابتهم، حتى لا يَكرهَهُم الغرب ويَرضى عنهم، ولعله بهذا العمل يرنو إلى تحقيق شرط الرضا الذي جاء في قوله تعالى في الآية 120 من سورة البقرة: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾.
في الختام أهمس في أذان كل مزدوجي الخطاب، بأن الكلمة مسؤولية والتزام، ومن ثم وجب على كل من يحترم نفسه، قبل أن يحترم غيره، أن يعمل على إخضاع قصده وقوله وفعله للالتزام والانضباط، لأن حبل النفاق عموما، والكذب خصوصا قصير كما يقال، ولنا في العدو الصهيوني عبرة لمن يريد أن يعتبر، فبعدما كانت جل الشعوب الغربية تسانده، لأنه استطاع في وقت من الأوقات أن يحتال عليها، باختلاق مصطلحي الإبادة النازية لليهود، ومعاداة السامية، ها نحن نعيش مرحلة انتهاء مفعول التخدير، واستفاقة جل شعوب العالم من غيبوبتها، واستعادة مناعتها ضد فيروس النفاق والخداع، لتصبح المعافاة النهائية منه بإذن الله وقدرته، مسألة وقت لا غير.
وسوم: العدد 1080