ميل غيبسون والفزّاعة العتيقة

تقول التقارير إنّ الممثل الأسترالي ــ الأمريكي، ميل غيبسون، قطع خطوات متقدمة على طريق إنجاز شريطه الجديد «آلام المسيحِ ــ القيامة» الذي من المقرر أن يُعرض في ربيع السنة المقبلة 2025؛ ويُكمل الشريط السابق الذي أخرجه غيبسون أيضاً، وعُرض سنة 2004 بعنوان «آلام المسيح».

وإذا صحّ أنّ التفكير في إنتاج الشريط الجديد يعود إلى مراحل سبقت عمليات «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، فالصحيح أيضاً أن التزامن مع جرائم الاحتلال في القطاع وسائر فلسطين التاريخية يحمل لتوّه أكثر من تذكرة واحدة بما تعرّض له غيبسون قبل 20 سنة؛ بصدد فزاعة العداء للسامية دون سواها.

بل لعلّ القادم سوف يكون أدهى بالقياس إلى الماضي، فالشريط الأوّل يتناول آخر 12 ساعة من حياة السيد المسيح، وأبرز التفاصيل التي انتهت به إلى الصليب (خيانة يهوذا الإسخريوطي، العشاء الأخير، حكم الموت الذي أصدره بيلاطوس البنطي، مسيرة الجلجلة في شوارع القدس…). الشريط الثاني المكمّل يدور في المقابل حول قيامة المسيح والـ 40 يوماً التي أعقبتها، والمؤامرات التي حيكت في قصر هيرودس، وصولاً إلى وقائع أورشليم القدس يوم «الجمعة العظيمة».

وللمرء أن يستذكر حقيقة ابتدائية بصدد الشريط الأول، هي حماسة غيبسون الفائقة للإنفاق عليه وتمويل إنتاجه من جيبه الخاصّ (قرابة 25 مليون دولار!)؛ بصرف النظر عن احتمالات انضمام الشريط إلى قائمة الأعمال التقليدية التي تتناول حياة السيد المسيح وآلامه، من ذلك الطراز الذي يلمع مرّة واحدة، ثم يرقد في العُلب فلا يخرج منها إلا في أمسيات عيد الميلاد فقط. وتلك كانت مجازفة أولى وأساسية لا ريب.

المجازفة الأخرى كانت قرار غيبسون إخراج الفيلم بنفسه، ثمّ استقراره تالياً على استبعاد النجوم من أداء الأدوار الرئيسية. وفي شريط مشحون بالتاريخ حول شخصية كونية كبرى مثقلة بالمعنى والرمز والدلالة والسجال والإشكال، لم يكن الخيار مأمون العواقب. فإذا احتُسب التفصيل ذاته على خلفية أنّ الفيلم يستخدم اللغات الآرامية والعبرية واللاتينية، التي كانت سائدة في فلسطين تلك الأيّام؛ فإنّ ظهور شريط الترجمة إلى الإنكليزية، في فيلم أمريكي، لم يخلُ من مخاطر، هنا أيضاً.

ويبقى بالطبع اعتبار ثالث قد يكون الأخطر، أي تهمة العداء للسامية، التي رُفعت في وجه ميل غيبسون منذ أن اتخذ الخطوة الأولى على درب إنتاج الشريط. وهذه لم تكن مخاطرة عابرة، أو كانت على وجه الدقّة بمثابة لعب فعلي بالنار، خصوصاً حين يكون فريق الإنتاج في الولايات المتحدة، وفي قلب هوليوود… على وجه التحديد! هنا فقرات من حوار أجراه موقع Inside Edition مع غيبسون حول هذا التفصيل:

ــ أنت متّهم بمعاداة السامية!

ــ لقد أصبح تكرار هذه الجملة مملاً حقاً! فما إن يقول المرء شيئاً، أي شيء، لا يعجب اليهود، حتى يسارعوا إلى إلصاق التهمة به. أمر مثير للاشمئزاز حقاً.

ــ ألا تخشى أن يقضي هذا المشروع على مستقبلك في هوليوود، وربما كلّ سينما؟ أنت تعرف مَن يسيطر على هوليوود!

ــ لا يهمني ذلك، وليفعلوا إنْ استطاعوا!

ــ ولكن، هل أنت حقاً معاد للسامية؟

ـ كلا، بالتأكيد، وإلا فكيف تمكنتُ من التمثيل في هوليوود!

كانت نبرة التحدّي واضحة في كلام غيبسون، ولم يكن خافياً أيضاً حسّ الاحتجاج من جانب آخر. ولقد عُقدت جلسات محاكم التفتيش ضدّ الشريط وصاحبه، ثمّ ضدّ التاريخ بما هو عليه وبأسره أيضاً حين اقتضت المعمعة. ولم تكن تلك سوى حلقة أخرى في حكاية العداء للسامية، العتيقة المتجددة، ابنة التراث الأوروبي للتذكير الضروري دائماً، والتي لم تبدأ من العدم والفراغ، ولهذا فإنها غير مرشحة للانتهاء بفعل تحريم هنا أو تأثيم هناك، أو اتكاء على قوانين وتشريعات تقود إلى السجون.

وللمرء أن يجزم، دون كبير حذر أو تحفظ، أنّ هذا «التراث» العريق لن ينقطع في أي وقت قريب، ما دام الذين يحاربون لاستئصاله من العقول والضمائر والسجلات لا يقومون بشيء آخر سوى مصادرة العقول والضمائر والسجلات. إنهم يخشون فيه روح الكابوس، ولكنهم يحّولونه إلى كابوس من نوع جديد ومتجدد، ويمهدون له تربة صالحة تجعله ينمو مثل نبات جهنمي سريع النموّ!

ذلك لأنّ رفع التهمة في وجه غيبسون لم تقتصر على شريط 2004 ولا على شريط 2025، بل كذلك على طائفة من الوقائع العجيبة والمتنافرة، كأنْ يُتهم بتوجيه عبارات معادية للسامية إلى شرطي مرور، أو (مخموراً هذه المرّة!) ضدّ ممثلة هوليودية يهودية، أو صديقته السابقة (غير اليهودية هذه المرّة)… وفي تسعة أعشار هذه «الحوادث» كانت الإدانات المسبقة بالعداء للسامية تقتبس قوله إنّ اليهود هم سبب الحروب، ولعلّ أطرفها كان تجريم المخرج السينمائي الأمريكي جون بايرد لأنه اختار غيبسون ليلعب في الشريط الكوميدي الساخر «روتشيلد»؛ ليس لأنّ الفيلم يحتوي على أية إشارة إلى اليهود، بل لمجرّد أنّ العنوان يذكّر بكُنية العائلة اليهودية الشهيرة.

وهكذا، حين تبدأ عروض «آلام المسيحِ ــ القيامة» فإنّ القادم سيكون أعظم؛ غنيّ عن القول.

وسوم: العدد 1084