محاكاة المحرقة: الاحتلال الإسرائيلي والجثامين الفلسطينية

نقلت دائرة الطب الشرعي في قطاع غزة أنها تسلمت جثامين 89 فلسطينياً أعادها جيش الاحتلال الإسرائيلي عبر معبر كرم أبو سالم، موضوعة داخل أكياس بلاستيكية تحمل أرقاماً متسلسلة فقط، ويصعب بالتالي التعرف على هويات الشهداء بالنظر أيضاً إلى تحلل الجثامين بشكل كامل، وكذلك لأن بعض الأكياس احتوت هياكل عظمية غير كاملة لأشخاص مختلفين.

ويزيد في استحالة التعرف على أسماء الجثامين أن الاحتلال رفض تقديم أي معلومات حول أصحابها، أو ما إذا كانوا قد استشهدوا خلال عمليات اجتياح الجيش الإسرائيلي في مختلف مناطق القطاع، أو قضوا تحت التعذيب في مختلف مراكز الاعتقال والتوقيف التي أنشأها الاحتلال، وكان بعضها سيئ الصيت مثل معتقل «سدي تيمان» حيث تتنوع سبل التعذيب بين الصعق بالكهرباء وبتر الأعضاء وتعطيل حواس السمع والبصر، إلى جانب الاغتصاب والاعتداءات الجنسية والجسدية المختلفة.

لكن الطريقة التي استقرّ عليها الاحتلال في تسليم الجثامين هي الأقرب، حتى الساعة فقط، إلى التذكير بأبشع الوسائل التي سبق أن اعتمدتها السلطات النازية في معسكرات اعتقال يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. بل يمكن الذهاب أبعد في الواقع، والمساجلة بأن أكياس الجثث والعظام التي أعادها جيش الاحتلال لا تستلهم الفظائع النازية والفاشية الأقبح، وبالتالي لا تحاكي أهوال المحرقة فقط، بل تتجاوزها وتتفوق عليها من حيث التوحش والهمجية.

ولم تكن مصادفة أن تتزامن واقعة تسليم الجثامين مع تصريح فاشي صفيق أطلقه بتسلئيل سموترتش وزير المالية في حكومة الاحتلال، معتبراً أن مقتل مليوني فلسطيني في قطاع غزة جوعاً، وليس برصاص الاحتلال وقذائفه وصواريخه فحسب، «يمكن أن يكون عادلاً وأخلاقياً» لإعادة الأسرى الإسرائيليين. وكي لا ينفصل منطق هذا التصريح الفاشي عن جذوره الصهيونية وركائزه السياسية والاجتماعية والدينية التي تشكل جوهر حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضد قطاع غزة، أضاف سموترتش: «مسموح لي أن أقول طموحي: حيث لا يوجد استيطان، لا يوجد أمن».

وكي يشهد شاهد من أهل الاحتلال على هذا الانحدار المتسارع إلى الحضيض الفاشي، نشرت منظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية تقريراً مفصلاً جاء في 118 صفحة وحمل عنوان «مرحباً بكم في الجحيم» واستعرض شهادات 55 سجيناً فلسطينياً توزعوا جغرافياً على النحو التالي: 21 من قطاع غزة، و30 من الضفة الغربية والقدس الشرقية، و4 من أراضي الـ48. كذلك تنوّع الأسرى هؤلاء بين نساء وأطفال وقيادات سياسية وأطباء ومحامين وأكاديميين وطلبة جامعات. وقالت يولي نوفاك المديرة التنفيذية للمنظمة إن حكومة الاحتلال «دفعتنا إلى أدنى مستوى أخلاقي ممكن، وبرهنت مجدداً على تجاهل تام للأرواح البشرية، بمن في ذلك الرهائن الإسرائيليون في غزة».

وبين استلهام العقلية الفاشية في مراكز الاحتجاز، ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية في قطاع غزة وسائر فلسطين، لا يكتفي أحفاد المحرقة باستلهام أسوأ ما خلّفته جرائم النازية، بل يتسابقون على استلهام ذلك الإرث المقيت وإعادة إنتاجه على نحو أسوأ وأبشع، بما يحيل ضحية الماضي إلى جلاد الحاضر والمستقبل.

وسوم: العدد 1090