قيم الإنسان التي تُسحق في السجون
يقتضي الإيمان والنبل ممارسة العدالة بشكل مطلق، في أوقات السلم والحرب، مع الصديق والعدوّ، وعند القوة أو الضعف. إنها قيمة عالية أمر الله بها (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وهتف بها الأحرار وأعلنها المصلحون عنوانا لمشروعهم.
وفي الوقت نفسه حاربها أعداء الإنسانية الذين تمكّن الشيطان من نفوسهم فتحوّلوا أعداء لها بدون حدود. وممارسة العدالة لا تنحص بالقضاء أو الحكم بين الناس، بل أن كل إنسان مطالب بممارستها في سلوكه المعتاد مع نفسه وأهله ومجتمعه، وكذلك مع غرمائه ومن يختلف معهم. بل حتى مع وجود حالة العداء يقتضي الإيمان والنُّبل ممارسة العدل بشكل كامل: «ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى». كما يُفترض أن تتجسد العدالة في سلوك الفرد دائما خصوصا في تعامله مع الآخرين، القريبين والبعيدين. والانحراف هو الآخر مفهوم عام يتضمن غياب العدالة عن ذلك السلوك. ويمكن القول كذلك إن العدالة هي المنهج الوسط المعتدل في السلوك بدون الميل عن الجادّة. والوسطيّة سمة للأمة التي اختارها الله لحمل الرسالة: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس». فالإيمان إذا كان مشفوعا بسلوك وسطي معتدل يجسد عدالة الفرد. والسلوك الوسط هو الذي يجسّد ذلك عمليا: «فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلّقة». فلا يمكن اعتبار التطرف السلوكي أو حتى في مجال الممارسة الدينية تجسيدا للعدالة. قال تعالى: «وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولاتبغ الفساد في الأرض». تتجسد العدالة في هذا السلوك بأروع صورها، ومن شأن ذلك أن يساهم في إقامة مجتمع سليم يتعاون أفراده ويتراحمون ويتحابّون ويتعاونون من أجل الخير ويسوده الحبّ والاحترام ومشاعر الأخوّة الإيمانية والإنسانية.
برغم ذلك تكاد العدالة تغيب عن ممارسة الكثيرين، خصوصا الحكام الذين يعتبرون معارضيهم «أعداء» يستحقون أشد أصناف العقاب. فالاستئثار بالحكم أول مصاديق الظلم وغياب العدل. وكثيرا ما استُخدم كلام الخليفة العبّاسي هارون الرشيد لابنه المأمون: لو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عيناك. فليس من العدل في شيء قطع رقبة الآخر خارج إطار القانون. ويصل سيف البغي إلى رقاب المختلفين فكرا أو موقفا سياسيا. وما الممارسات الشنيعة في التعامل مع المعارضين من قبل أنظمة الاستبداد إلا بعض مظاهر انعدام العدالة. فليس من العدل في شيء سلب حقوق الإنسان التي جعلها الله له: كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه. فالاعتقال يجب أن يراعي الضوابط الأخلاقية، فلا يُعرّض الشخص للإهانة بالضرب والشتم، ولا يُنال من كرامته أمام أهله، ويجب أن يُعامل كبريء حتى يثبت جرمه وفق القانون الذي يراعي الحقوق الإنسانية والإسلامية. وقد وضعت الأمم المتحدة ضوابط كافية لمنع الإساءة والإهانة، وليس من العدالة في شيء تجاوزها، لأنها تهدف لحفظ كرامته، وهذا مبدأ قرآني واضح: ولقد كرّمنا بني آدم. وسلب تلك الكرامة بالمعاملة الحاطّة بالكرامة الإنسانية ظلم كبير. وعندما يودع المعتقل السجن فإن من حقه أن يحظى بما تتطلبه حياته من مأوى ملائم وطعام، مهما كان الجُرم الذي اعتقل بسببه.
ولكن الواقع الذي يعيشه عالم القرن العشرين مغاير لذلك. وفي العقود الثلاثة الأخيرة ذُهل العالم لمشهدين بثتهما وسائل الإعلام على نطاق واسع. أولهما ما نقلته شاشات التلفزيون من معاناة أسرى الحرب من أهل البوسنة والهرسك على أيدي الصربيين، فقد تحوّلت أجسادهم إلى هياكل عظمية حرّكت مشاعر العالم وأعادت إلى الذاكرة مشاهد ضحايا النازية، ودفعت للضغط على الصرب لوقف المعاملة المشينة لأسرى الحرب.
الاعتقال يجب أن يراعي الضوابط الأخلاقية، فلا يُعرّض الشخص للإهانة بالضرب والشتم، ولا يُنال من كرامته أمام أهله، ويجب أن يُعامل كبريء حتى يثبت جرمه وفق القانون الذي يراعي الحقوق الإنسانية
وكان المشهد الثاني عرض أسرى تنظيم «القاعدة» بحللهم البرتقالية وهم محاطون بالجنود الأمريكيين الذين اعتقلوهم، وبعدها انتشرت تقارير كثيرة عن تعرضهم لمعاملة قاسية في سجن غوانتنامو السيئ الصيت. لم يكن العالم يتوقع أن تستمر إهانة البشر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بهذه الأنماط من الإهانة والتنكيل. وبعد حدوث ردود فعل واسعة في أنحاء العالم تراجعت تلك المشاهد، واعتقد البعض أن ذلك نهاية لإساءة معاملة أسرى الحرب والمعتقلين السياسيين. وكان من أسباب ذلك اعتقال بعض المسؤولين الصرب المتهمين بسوء معاملة الأسرى. ولكن لم تستطع الأجهزة الدولية التصدي للأمريكيين الذين أساؤوا معاملة معتقلي تنظيم «القاعدة» سواء في أفغانستان أم العراق أم غوانتنامو. كما لم يتم الكشف بشكل كامل عن أكثر من 30 سجنا سرّيّا كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تديرها حول العالم وتستخدم فيها أساليب تعذيب مقيتة ومنها «الإيهام بالغرق».
في الأسبوع الماضي أظهر مقطع مصور، بثته القناة 12 الإسرائيلية، جنودا يأخذون محتجزا فلسطينيا بعيدا عن كاميرات المراقبة للاعتداء عليه. وأحدث ذلك حملة احتجاجات دولية ضد كيان الاحتلال. وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر «لقد شاهدنا الفيديو، وتقارير الاعتداء الجنسي على المعتقلين مروّعة» وأضاف «لا يجوز أن يكون هناك أي تسامح تجاه اغتصاب أي معتقل أو الاعتداء عليه جنسيا». وفي الشهر السابق، أشعل التحقيق في الاعتداء الجنسي على الأسرى الفلسطينيين في سجن سدي تيمان احتجاجات كبيرة. برغم ذلك لم تتوقف قوات الاحتلال عن سياسة استهداف الفلسطينيين بكافة أساليب القمع والاضطهاد بما لا ينسجم مع القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان.
وقبل أسبوع أيضا قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، إن تجويع أهل غزّة مبرَّرٌ وأخلاقي قائلا: «لا أحد في العالم سيدعنا نجوّع مليوني إنسان، برغم أن ذلك مبرَّرٌ وأخلاقي من أجل تحرير الرهائن». وأضاف أن إسرائيل «تسمح للمساعدات الإنسانية بالمرور فقط لأننا لا نملك خيارا آخر» وأكمل معبِّرا عن أسفه لكون إسرائيل «في وضع يتطلب شرعية دولية لشن هذه الحرب». واكتفى العالم بإصدار بيانات الاستنكار لتلك السياسة. فقال الاتحاد الأوروبي أن تجويع المدنيين عمدًا هو «جريمة حرب» وطلب من الحكومة الإسرائيلية أن «تبتعد» عن تصريحات الوزير اليميني المتطرف. واكتفى العالم الغربي بالتنديد بدون أن يشير لعقوبات ضد كيان يعلن وزراؤه عداءهم للإنسانية واستعدادهم لتجويع شعب كامل، بمن فيهم السجناء السياسيون المطالبون بتحرير أرضهم. كما انتقدت فرنسا سموتريتش قائلة إن تقديم المساعدة الإنسانية لشعب قطاع غزة «واجب على إسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني» كونها تتحكم في جميع منافذ الوصول إلى القطاع. ودعا وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي باقي أعضاء الحكومة الإسرائيلية إلى سحب تلك التصريحات والتنديد بها.
المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان كشفت عن الوسائل التي تستخدمها إسرائيل في تعذيب الفلسطينيين الذين تعتقلهم من غزة. «الصورة العامة تنم عن تنكيل وتعذيب وفقاً للأوامر وعلى نحو يخالف تماماً واجبات إسرائيل، سواءً التي يلزمها بها القانون الإسرائيلي أو القانون الدولي». وبعد أن بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة 40 ألفا ازدادت الضغوط الدولية على إسرائيل بسبب سلوكها خلال الحرب المستمرة منذ عشرة أشهر. ودعا رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية قدورة فارس لتشكيل لجنة دولية للتحقيق في معاملة السجناء ومحاسبة إسرائيل قائلا: «نحن لدينا توثيق للجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المعتقلين الفلسطينيين في سجونها ولدينا شهادات مروعة عما يتعرض له المعتقلون سواء تعلق ذلك بالتعذيب أو الاغتصاب وغيره من الجرائم».
وثمة تقارير مؤلمة عما يدور في معتقلات السودان خصوصا التي أنشأتها قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. ففي واحدٍ منها، يقبع نحو 500 شخص، في مكان ضيق بالكاد يتسع لنصفهم تحت عمارة سكنية، تفتقر إلى التهوية، ولا توجد فيها دورات مياه، وبها رطوبة العالية تجعل التنفس صعبا. إنه واحد من السجون التي فقد الكثيرون فيها أرواحهم والتي تنتشر فيها العُنصرية.
هذا العرض السريع لأوضاع السجون في بعض الدول العربية يطرح سؤالا محوريّا: لماذا استرخاص البشر ومصادرة حرّيّاتهم والتلاعب بحقوقهم؟ أليس فيكم رجل رشيد؟
وسوم: العدد 1091