أولمبياد باريس ونهاية أكذوبة المساواة بين الجنسين!
كثيرا هي المصطلحات والمفاهيم السائدة على المستوى العالمي، والتي لا اختلاف عليها من حيث المبدأ، كما هو الشأن بالنسبة لمفاهيم: المساواة، والعدل، والإنصاف، والحق والواجب... لكن تنزيلها في الواقع العملي يتأثر بالنظارات التي يُنظر إليها من خلالاها، والتي تَستخرج مادتها الأولية من التوجهات العقدية والسياسية والثقافية والقيم الإنسانية والأخلاقية، والأيديولوجية... فإذا أخذنا مفهوم المساواة بين الجنسين على سبيل المثال، وهو الذي يهمنا في هذا المقال، فلا أحد يرفضه من حيث المبدأ، لكن سرعان ما يبرز الاختلاف واضحا في شأنه عندما يُعمد إلى تنزيله على أرض الواقع تبعا لاختلاف التوجهات والخلفيات التي تؤطره، فهناك من ينطلق من الاختلافات والتمايزات البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية التي يتميز بها جنس عن آخر، للدلالة على استحالة المساواة بينهما في مجموعة من المهام المجتمعية المرتبطة ارتباطا مباشرا بهذه التمايزات، من قبيل الوظائف الجنسية، التي يتعذر معها استبدال الأدوار بحيث يبقى الذكر ذكرا والأنثى أنثى، وتبقى الأم أما فيما يتعلق بوظيفتي الحمل والرضاع، كما لا يمكن بحال من الأحوال إكساب الرجل عاطفة الأمومة التي ترتبط بالتكوين السيكولوجي للمرأة. في المقابل هناك من ينادون بتعميم المساوات بينهما رغم التمايزات المشار إليها. ولتبرير ذلك اخترعوا ما أطلقوا عليه نظرية "الجندر" أو "النوع الاجتماعي" الذي تندرج ضمنه مقولة النسوية الفرنسية سيمون دو بوفوار في كتابها "الجنس الآخر": "لا يولَد المرء امرأة، وإنما يَصِيرُ كذلك" بمعنى "أن الهوية الجنسية تُحدَّد انطلاقا من التربية والتنشئة الاجتماعية، وتحديد الأدوار التي يرسمها المجتمع ودرجة الانخراط في مختلف الأدوار والتصنيفات المرتبطة بالجنس البيولوجي"*. بل وأكثر من ذلك ترى الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، أن الجندر لا ينفك عن التكوُّن وأنه حالة من البناء المستمر، بحيث تَعتبر أن "الواقع الجندري أدائيٌّ على النحو الذي يعني بكلّ بساطة أنّه ليس واقعيًّا إلا بقدر ما يُؤدّى" وهو ما يعبر عن انخراطها البارز في مجال المثلية الذي يصبح الجنس فيه اختياريا، علما أن هذا الأمر لا يستقيم مع الطبيعة البشرية، إذ لا يكفي أن تُغير الأعضاء التناسلية لتصبح ذلك الجنس الذي يُتخيل إليك أنك تنتمي إليه، وقد بينت مجموعة من الدراسات أنه بالإضافة إلى المخاطر الجراحية والعضوية، ترتبط عملية تغيير الجنس بمخاطر نفسية، تتمثل في عدم التأقلم مع الحياة الجديدة ومتطلباتها مما يؤدي إلى ارتفاع محاولات الانتحار لدى المتحولين جنسيا، بحيث بلغت نسبة الذين حاولوا الانتحار بعد إجراء العملية بالفعل، ضعف الذين لم يقوموا بإجرائها، فضلاً عن أن نصف المتحولين جنسياً تقريباً يتلقون علاجاً نفسياً بانتظام. وبدون إطالة فالمساواة التامة بين الجنسين، باستثناء المساواة في الإنسانية والكرامة التي يقرها الدين الإسلامي، لا يمكن أن تحصل مهما حاول المدافعون عن "حقوق الإنسان الكونية" علما أن هناك وظائف يشترك فيها الجنسان دون أن تصل إلى حد التطابق أو المساواة المطلقة، ومن ثم فالمنطق يقتضي الالتزام بمعياري العدل والإنصاف، بدل المطالبة بالمساواة المطلقة في التعامل مع الوظائف الناتجة عن الاختلافات البيولوجية والسيكولوجية بين الجنسين، ولعلنا كمسلمين نعتبر أن من أسس الشريعة الإسلامية اعتماد المعيارين في العلاقات بين بني البشر جميعهم، وكلما وُجد اختلاف بينهم، بحيث يفرض الزكاة على الغني ويستثني منها الفقير، ويفرض الحج على القادر ويعفي غير المستطيع، ويسوي بين المرأة والرجل في أمور، ويميز بينهما في أمور أخرى على غرار الإرث والصداق والنفقة، والحضانة...
لنعد إلى مطلب المساواة بين الجنسين من منظوره الغربي، ولننظر إلى أي مدى يلتزم الغرب نفسه بتطبيقها. ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا يمكن لأي متتبع ألا يلاحظ دون عناء يذكر، أن المطلب إيديولوجي بامتياز، هدفه فرض ما يسمونه "حقوق الإنسان الكونية" من أجل القضاء على مفهوم الأسرة وما يرتبط بها من قيم التآزر والتعاضد في مقابل تنمية الفردانية التي تدعو إلى ممارسة أهداف الفرد ورغباته لتكون قيمة مستقلة، وذلك بإشاعة المثلية والرضائية والإجهاض... تحت مسميات الحرية والمساواة...
وبما أن مطلب المساواة لا يستقيم على أرض الواقع، وبما أن الهدف غير المصرح به، هو التمكين للمرأة ولو على حساب الكفاءة والنجاعة، فلقد تم اختراع مصطلحات من قبيل التمييز الإيجابي والكوتا ... لتمكينها من مناصب إدارية وسياسية بل وحتى دينية و... لمجرد أنها امرأة، في الوقت الذي يستوجب فيه مبدأ المساواة المطالبة بتمكينها بنفس الحظوظ للتنافس الشريف على أي منصب أو مهنة أو وظيفة ترغب في ولوجها، ثم بعد هذا كله لماذا لا تتم المطالبة بالمساواة بين الذكور والإناث في المباراة والمنافسات الرياضة، فلماذا نجد مارتون للرجال وآخر للنساء، وكرة قدم للرجال وأخرى للنساء، وملاكمة خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء ... وعلى الرغم من أني لست من المولعين بتتبع المنافسات الرياضية، فإن الضجة التي صاحبت مشاركة الملاكمة الجزائرية خليف في الألعاب الأولمبية بباريس لفتت انتباهي، وأيقنت من خلالها مرة أخرى أن مصطلح المساوات بين الجنسين، على غرار مصطلح حقوق الإنسان وأخواتها، لا يعدو أن يكون شعارا للاستهلاك ما دام يخدم أجندة معينة، ليتم التنكر له بمجرد خروجه عن الخطوط المرسومة من قبل هذه الأجندة، وإلا كيف يتم التشكيك في أنوثة خليف من قبل تيار النسويات، لا لشيء سوى لأن نسبة التستوستيرون تجاوزت حدا معينا، وذلك ضدا على اللجنة المنظمة التي أقرت بكونها أنثى. ومع هذا التشكيك الذي بلغ حد طرح مشكلتها في الأمم المتحدة، والتحرش بها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تَفرض مجموعة من التساؤلات نفسها، أذكر منها ما يلي:
1 - لماذا لم يُطرح هذا المشكل خلال أولمبياد طوكيو التي اكتفت فيها إيمان خليف بالرتبة الخامسة، وهل كان هذا المشكل سيُطرح في باريس لو انهزمت في المقابلة التي جمعتها بالإيطالية التي عبَّرت عن أنوثتها بعفوية عندما انسحبت باكية بمجرد تلقيها اللكمات الأولى، وكأنها كانت تنتظر أن تستقبلها بالورود عوض اللكمات التي اشتقت منها كلمة ملاكمة.
2 - إذا كان مطلب المساواة لم يثبت أمام أنثى ميزها الله ببعض الخصوصيات لا غير، فكيف يمكن التجرؤ على التشدق بالمساواة مع الرجال.
3- من المتعارف عليه أن الأعضاء التناسلية هي المحدد الأساس في التمييز بين الجنسين، ومن ثم يتم التعامل مع المواليد الجدد على هذا الأساس، فهل يُفهم مما حصل أننا سنضطر مستقبلا لعرض أطفالنا على التحاليل الطبية قبل تسميتهم على سبيل المثال، أم أن الجنس يُمكن أن يَتغير بتغير نسبة التستوستيرون التي يمكن أن تتغير بسبب بعض الأمراض، أو ممارسة أنشطة رياضية معينة، أو تناول بعض الأطعمة أو الأدوية...، مما يتعين معه تغيُّر الجنس من ذكر إلى أنثى أو العكس، ولعل هذا ما يتماشى مع آراء الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر المشار إليها أعلاه، ومع ضمان "لغة محايدة" بين الجنسين في مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعتبر من أوائل إنجازات لجنة وضع المرأة في الأمم المتحدة.
من هنا يتبين أن المساواة بالمفهوم الغربي، لا يمكن أن تصمد لحظة واحدة أمام الحقائق العلمية البيولوجية والسيكولوجية المميزة لكل من الذكر والأنثى، أما الاستشهاد بحالات خاصة لتبرير إمكانية قيام المرأة مقام الرجل، من قبيل المرأة الأرملة التي تضطر للقيام بكل المهام التي كان يقوم بها زوجها، أو الرجل الذي يقوم بمجموعة من المهام التي تختص بها المرأة، فلا يعدو أن يندرج في قاعدة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
ختاما أقول بأنه إذا كانت في وقت من الأوقات مقولة "حقوق الإنسان الكونية" وما يندرج تحتها من مفاهيم الحرية والمساواة... تستهوي مجموعة من ذوي النيات الحسنة المنبهرين بما لمسوا من تجسيدها في بلاد الغرب، فإن الواقع المعيش لم يترك مجالا للشك بأن لا حقوق إنسان ولا هم يحزنون، إذ كيف لهذا الغرب الذي عاث في الأرض فسادا في جل بلاد العالم، بدءا بإبادة السكان الأصليين للقارة الأمريكية، مرورا بحرب فيتنام، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، والقائمة طويلة، وصولا إلى مساندته اللامشروطة للعدو الصهيوني في إبادته للشعب الفلسطيني، فكيف يمكن إذا أن يؤتمن هذا الغرب على المساواة بين الجنسين التي لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تحصل لأنها بنيت على الباطل الذي يتمثل في مخالفته للفطرة، و"كل ما بني على باطل فهو باطل" كما تقول القاعدة الفقهية.
* مادة مقاربة النوع الاجتماعي مطبوع للفصل السادس : ذة بنعدادة جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس.
وسوم: العدد 1091