صبّار الصهيونية والعزاءات الفاشية

غايل بندهايم، الأمريكية ـ الإسرائيلية، تشتغل بعلم النفس، محللة وطبيبة، وتقيم في نيويورك؛ لكنها حاضرة في الحياة اليومية الإسرائيلية وكأنها تقطن في تل أبيب، أو في مستعمرة بيت شيمش غرب مدينة القدس، لا فرق أو تفريق من حيث التفاعل العابر للبحار والمحيطات وآلاف الأميال. وهي، في موقع «تايم أوف إسرائيل» تحرّر بالإنكليزية مدوّنة نشطة، أبرز اللافت فيها أنها تعكس ذلك الطراز من «الارتطام الناعم» بين عقائد صهيونية يهودية أرثوذكسية؛ في مقابل عقائد صهيونية يهودية أصولية أو متشددة، حريدية غالباً لأنها تخصّ السلوك وعادات المأكل والمشرب والملبس.

ذات يوم، على سبيل المثال، عابت على الشبان الحريديم أنهم يتحرشون بصبايا يهوديات غير محتشمات اللباس، معتبرة أنّ هذا السلوك المتطرف يهدد «طرائق الحياة» التي تعيشها هي نفسها، رغم سكنها في نيويورك وليس في أيّ من مستعمرات وأحياء الحريديم على امتداد دولة الاحتلال. وإذْ تقرّ بأنّ «النصّ العتيق» يجمعها مع هؤلاء، ويجبرها بالتالي على تحمّل «خطّ الاختلاف الخطير» الذي يفصلها عنهم؛ فإنها تتناسى سلسلة الحقائق التي لم تضع عقائد الحريديم في تضادّ مع الصهيونية الكلاسيكية فحسب، بل وضعتها على النقيض تماماً بصدد مسائل شائكة تخصّ القراءات التوراتية لمفهوم، ومشروعية، الدولة اليهودية.

عنصر آخر لافت، في تقدير هذه السطور دائماً، هو أنّ كتابات بندهايم تعكس الكثير من خصائص تيار صهيوني أمريكي معاصر، يمزج في آن معاً بين الرؤية العاطفية الرومانسية والتمترس العسكري الميليشياتي؛ كأن يرى في التفتّح الليلي لزهرة صبّار شمعي، داخل حديقة على تخوم نيويورك، عزاءً وجدانياً وروحياً، وبالتالي سياسياً وعقائدياً، حيال مقتل ابن أخٍ إسرائيلي مجند في الجيش الذي يخوض حرب إبادة في قطاع غزّة منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023. ليس هذا فقط، بل إنّ بندهايم ترى في تلك الأزهار، أبهى ما ترى وأشدّ احتشاداً بالمغزى، أنها تعيد التذكير بالملك سليمان وتعاقب الفصول في حدائقه وقصوره؛ الأمر الذي يردّها إلى قسط غير قليل من معتقدات… الحريديم!

وهذا منطق لا تعفّ رسائله، المبطنة منها والواضحة على حدّ سواء، عن مصالحة فخار صهيوني صبّاري المحتوي (وتلك كانت واحدة من صفات إسحق رابين مثلاً: شوكيّ شائك في وجه الخارج، وطريّ عصاريّ في الداخل)؛ مع صلف صهيونيّ فاشيّ المحتوى والشكل معاً، تجسّده عزاءات ابن الأخ الذي قاتل في قطاع غزّة، وهناك قُتل؛ فتفتحت زهرة الشمع… على مبعدة آلاف الأميال، في ليل نيويوركي!

هو، أيضاً، منطق يعيد الذاكرة إلى زمن غير بعيد شهد شيوع حمّى من نوع فريد، اجتاحت دولة الاحتلال على مستويات شتى لم تبدأ فقط من دوائر التفكير حول الفلسفة السياسية الصهيونية، ولم تتوقف عند وسائل الإعلام وسجالات جنرالات جيش الاحتلال. خلاصتها كانت السؤال التالي: هل يصحّ السماح للجندي الإسرائيلي بأن يذرف الدموع خلال جنازات زملائه؟ وهل من الهرطقة (نعم، حرفياً) وقوع سجال بين قائد الجبهة الشمالية الذي اعتبر البكاء صفة إنسانية، ورئيس الأركان الذي رأى في البكاء علامة ضعف لا تليق بالمقاتل الإسرائيلي الصبّاري.

عسير، أو هو محال أغلب الظنّ، أن تُسأل بندهايم، الطبيبة هذه المرّة، عن أيّ صنف من العزاء يمكن أن تقبل به إزاء عذابات مئات الآلاف في قطاع غزّة، خاصة الأطفال والنساء والشيوخ، في المشافي أو مراكز الإيواء التي تُقصف، أو حتى في مجاهدة فِرَق طبية دولية لتأمين حفنة أمتار آمنة تتيح التطعيم ضدّ شلل الأطفال. وهذا، ضمن العديد سواه، بعض تعبيرات مأزق في التفكير الصهيوني المعاصر، أوسع نطاقاً وأشدّ انحطاطاً؛ عنوانه شخصية اليهودي ما بعد الهولوكوست، حيث انقلبت الضحية إلى جلاد يتعزى بالفاشيات.

وسوم: العدد 1093