الصحافة العربية وغزة: مرآة غرائبية!

تفرض أحداث غزة نفسها يوميا بشكل ينعكس على وكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام المحلّية في مجمل بقاع الأرض، وتتعدد طرق التطرّق إلى هذا الموضوع.

يتم التركيز أحيانا على الوضع الإنساني المرعب الذي يذكّر بأبشع فصول التاريخ البشري، مع تعرّض قرابة مليونين وأربعمئة ألف فلسطيني لصنوف الإبادة، والتجويع والإجلاء والحصار، وهو أمر شهدنا مؤخرا بدء انتقاله إلى الضفة الغربية.

ويتمّ التركيز أحيانا أخرى على التداعيات السياسية الخطيرة لهذه الأحداث على المنطقة العربية والإقليم الأوسع، والعالم بالتالي، مع توسّع الجبهات واندياح تأثيراتها على العالم، كما هو الحال في الخليج العربي والبحر الأحمر، ومع التوتّر الكبير المنذر بحرب إقليمية بين إيران وإسرائيل، ومع التدخّل المباشر للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين في قصف اليمن، والمخاطر المتواصلة لعدوان إسرائيلي على لبنان.

تدفع القراءات التي تنتقد طرق تعامل أمهات الصحف الغربية مع هذا الموضوع، والتي غالبا ما تأتي من قبل تيارات يسارية وحقوقية، أو من كتاب عرب مناهضين للغرب، إلى التساؤل عن كيفية تعامل وسائل الإعلام العربية مع موضوع غزة، وتكشف جولة سريعة قامت بها «القدس العربي» على متابعات العديد من المواقع الإلكترونية لصحف عربية والمواقع الإخبارية العربية يوم أمس عن ملاحظات مفيدة.

فإذا أخذنا صحف الإمارات (التي كانت الأولى في المطالعة أبجديا) لوجدنا في إحداها خبرا يقول (بالحرف): الجيش الإسرائيلي يعلن انتهاء عملية استمرت شهرا في جنوب ووسط قطاع غزة ومنطوقه يكرر الجملة نفسها مضيفا عليها القول إن تلك العملية «أسفرت عن مقتل 250 مقاتلا فلسطينيا». الخبر، كما هو واضح، ينتقي من مئات الأخبار التي تتعلق بغزة خبرا منقولا عن الجيش الإسرائيلي. يصادق هذا الخبر، بشكل مبطّن، على رواية الجيش الإسرائيلي وبذلك يختفي الضحايا المدنيون بشكل كامل. ولعل الصحف الإماراتية، بتجاهلها تماما للموضوع الفلسطيني، قد فعلت خيرا لأنها سكتت!

تختار صحيفة بحرينية خبرا رئيسيا لها هو: أميرة نرويجية تتزوج رجلا زعم أنه كان فرعونا، ولكنّها تذكر خبرا يتعلق بإسرائيل يقول إنها صادقت على «خرائط محور فيلادلفيا» كما تنشر تصريحا لكامالا هاريس المرشحة الديمقراطية لرئاسة أمريكا تقول فيه إنها لن تعدل سياسة بايدن بشأن الدعم العسكري لإسرائيل. انتقلت الصحيفة إذن من خبر ضاحك إلى خبرين إسرائيلي وأمريكي، ويغيب الفلسطينيون عن المشهد.

ينقسم الموضوع الفلسطيني في لبنان، المنقسم بدوره حول هذه القضية، فيحضر بقوة في المواقع القريبة من «حزب الله» والمقاومة الفلسطينية وحتى في مواقع مختلفة معهما، لكنّه يظهر في صحيفة لها تاريخ عريق على شكل عنوان إثارة: هل هرب السفير الإيراني إلى إسرائيل، ليتبعه خبر إن الصحيفة تحققت من الخبر وأن لا صحة له!

يظهر الأمر بشكل أكثر غرابة في العراق، فتنقل صحيفة تصريحا لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني يقول فيه إن ما يحصل في غزة يتطلب موقفا حازما وصريحا (يتطلّب ممن وهو رئيس الوزراء؟) فيما تتطرّق جريدة مرموقة للأمر عبر خبر واحد يقول إن: عائلات رهائن لدى «حماس» توجه رسائل إلى أبنائها عبر الحدود، وهنا لا تختفي المآسي الفلسطينية فحسب بل يتم استبدالها بقضية الرهائن الإسرائيليين.

تختار صحف عديدة من المحيط إلى الخليج زوايا شديدة الغرابة من الموضوع، فمن كل المشهدية الشديدة الاتساع لموضوع غزة ينشر موقع مصري خبرا عن الخسائر الفادحة التي تكبدتها شركة بريد إسرائيل، وفيما تتجاهل المواقع المغربية الموضوع الفلسطيني يظهر مقال رأي واحد ينتقد إيران، ورغم امتياز الصحف السعودية عموما عن نظيراتها الإماراتيات والبحرينيات في ظهور أشكال واضحة من النقد لإسرائيل فإن واحدة تعتبر رائدة في مجالها اختارت لعنوانها الرئيسي تصريحا لبايدن يقول إن «حماس» هي العقبة الوحيدة أمام التوصل لهدنة في غزة.

بين نقلتي التبنّي الضمني للموقف الإسرائيلي، والانخراط المباشر في الصراع ضد إسرائيل، هناك ثقب إعلامي عربي أسود تختفي فيه غزة أو تحضر بشكل غير منهجي، أو انفعالي، أو مرتبط بالسياسة الخارجية للدول المعنية، وفي الأحوال كلها يقدّم الإعلام العربي صورة شديدة الغرابة والبعد عن الواقع والمنطق والإنسانية.

وسوم: العدد 1093