حمى الإيفادات وفيروسات جنون السفر
كاظم فنجان الحمامي
حتى ابن بطّوطَة الذي سجل أعلى الأرقام القياسية في السفر والترحال لم يصل إلى عشر معشار ما سجله كبار المسؤولين المصابين بحمى الإيفادات المتلاحقة, فابن بطوطة الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي, ونال لقب أمير الرحالين, خسر ألقابه كلها أمام أصغر موظف من بطانة أصحاب المناصب العليا.
لقد عاش ابن بطّوطة في الزمن, الذي لم تكن فيه جوازات السفر متداولة بشكلها الحالي, ولم تكن المنافذ الحدودية ملزمة بمطالبة الناس بتأشيرات الدخول, فطاف وحده في بلاد المغرب ومصر والسودان والشام والحجاز وتهامة والعراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان والهند والصين وبلاد التتار وأواسط أفريقيا من دون جواز سفر, ومن دون تأشيرات, لكننا إذا افترضنا أنه كان يحمل وثائق السفر المعمول بها هذه الأيام, فأننا سنكتشف أن عدد الأختام الرسمية المثبتة في جوازه أقل بكثير من عدد الأختام المثبتة في جوازات الحاشية المقربة من كبار المسؤولين وبطانتهم, آخذين بنظر الاعتبار الفوارق الكبيرة بين تنقل ابن بطّوطة على الطرق البرية الوعرة بالأساليب البدائية, وبين السفر الفوري المريح على أجنحة الطائرات, التي تفوق سرعاتها سرعة الصوت, وتمتلك قدرات فائقة لعبور البحار والمحيطات, واختزال المسافات, فتقطع في سويعات ما عجز عن تحقيقه ابن بطّوطة في سنوات.
افحصوا جوازاتهم وشاهدوا أختام المطارات الدولية التي هبطوا في مدارجها, وأحصوا عدد المرات التي سافروا فيها, ودققوا مدد الزيارات والإقامات, والفترات الفاصلة بين رحلة وأخرى, لتكتشفوا أنهم أمضوا معظم أوقاتهم في الرحلات الجوية والبحرية والبرية.
مسكين ابن بطّوطة, أفنى زهرة شبابه في رحلاته الطويلة المرهقة, وطاف على نفقته الخاصة من أجل أن يضع لنا كتاباً واحداً يصف فيه رحلاته وأسفاره, هو: (تُحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار), بينما لم يكتب لنا أحفاده من عرب الشيخ فرهود سطراً واحداً عن رحلاتهم المجانية المريحة المربحة, واكتفوا بالتقاط الصور التذكارية في الفنادق والمطاعم الفاخرة وأطباقها الشهية.
صارت اصطلاحات (الإيفادات) من المفردات الإدارية المشرعنة لتبرير سفر كبار المسؤولين إلى البلدان التي يرغبون بزيارتها على نفقتنا الخاصة (من المال العام), أو على نفقة المقاول أو المتعهد, الذي سبق له التعاقد مع مؤسساتهم لتجهيزها بسلعة معينة أو لتنفيذ مشروع ما.
لسنا مغالين إذا قلنا أن المدة التي أمضوها خارج البلاد, أطول بكثير من المدة التي أمضوها في مكاتبهم, ولسنا متحاملين عليهم إذا قلنا أن رحلاتهم المكوكية إلى مكة المكرمة صارت من الثوابت الموسمية المتكررة, لإكمال مستلزمات التظاهر بالورع والتقوى, حتى أصبحوا أدرى من أهل مكة بشعابها.
كسروا الأرقام القياسية كلها في رحلاتهم الجوية المفرطة, تفوقوا على أسراب الطيور المهاجرة, تحدوا خبراء مجلة (ناشيونال جيوغرافي) في معرفة أدق التفاصيل الجغرافية المرتبطة بمعالم الغابات الطبيعية والمنتجعات السياحية والأماكن الترفيهية.
إيفادات متكررة, غير مثمرة, أثقلت ميزانية الدولة, وتسببت في تعطيل أعمالها. يعود الموفدون بعد رحلاتهم المتلاحقة ليحدثوا الناس في كل مرة عن جمال الجنس اللطيف في المخادع الأوربية, ويحدثونهم عن نظافة الملاهي الآسيوية, وجلسات المساج الزيتي بلمسات الحسناوات, ويتحدثون كثيراً عن الزواج السياحي المباح في الليالي الملاح. إيفادات متوالية يعود فيها المسؤولون وهم أكثرة شراهة نحو المزيد من الإيفادات, للاشتراك بدورات تعليمية مضحكة ليس لها أي مردودات إيجابية, يتعلم فيها المهندسون مبادئ الإسعافات الأولية, ويتعلم القانونيون تشغيل أنظمة الصرف الصحي, ويتعلم الإداريون فنون صيانة المحركات الثقيلة, ويتعلم الصناعيون أساليب زراعة الخيار في الغرف الزجاجية, في تناقض عجيب يتعارض مع أبسط قواعد التوصيف الوظيفي. تناقض أقل ما يقال عنه أنه من أعراض الإصابة بفيروس جنون السفر.
ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين