من الثورة إلى الفوضى ثم العبث
كانت الثورة التونسية في عام 2011، والتي كثيراً ما تمت الإشادة بها باعتبارها الشرارة التي أشعلت الربيع العربي، مدعومة بسخط واستياء شعبي عارم من القمع السياسي والركود الاقتصادي والفساد الإداري المستشري في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. وعندما هرب بنعلي من حبل المشنقة إلى صحراء المنفى، اعتقد العديد من التونسيين أن البلاد سوف تشهد أخيراً التحول الديمقراطي الذي طال انتظاره بل وكانت تحلم به الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. لكن سرعان ما تحول ربيع الثورة إلى خريف من الفوضى وعدم الاستقرار وغياب مؤسسات الدولة.
وغداة اندلاع الثورة مباشرة، واجهت تونس صعوبات مختلفة في إقامة نظام سياسي مستقر ومستدام. وكانت النخبة السياسية التي تولت السلطة حائرة في اختياراتها، ولم يتمكن قادتها من التوافق على الإصلاحات اللازمة لتوجيه البلاد نحو المسار الديمقراطي الصحيح . وتناسلت الأحزاب السياسية بسرعة، وكان العديد منها يفتقر إلى التجربة والعمق التنظيمي والرؤية الإيديولوجية المتماسكة اللازمة للحكم. وقد أدى تضارب المصالح بين صقور الحكومة الانتقالية إلى حالة من الركود، في حين استغلت الجماعات المتطرفة المتأسلمة الفراغ في السلطة، الأمر الذي أدى إلى زعزعة استقرار البلاد بشكل أكبر.
كما امتد التفكك إلى مؤسسات الدولة القوية . فبينما كانت الأجهزة الأمنية والجيش الوطني يكافحان من أجل السيطرة على ترهل سلطتهما ، استغلت العناصر الجهادية، بما في ذلك تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، حالة عدم الاستقرار لإشعال الفتنة في البلاد. وكانت بعض الهجمات البارزة، مثل تلك التي وقعت على متحف باردو ومدينة سوسة السياحية، بمثابة صدمة للأمة وألحقت الضرر في المقام الأول بقطاع السياحة الحيوي.
فضلاً عن ذلك، تفاقمت الأزمة الاقتصادية في السنوات التي أعقبت ثورة الياسمين. وتفاقمت معدلات البطالة، وخاصة بين الشباب، في حين ارتفعت معدلات التضخم والديون العامة. وأصبحت الإضرابات والاحتجاجات متعددة كل يوم ، الأمر الذي أدى إلى شل قدرة حكومة تصريف الأعمال على تدبير الحكم بشكل طبيعي وناجع.
لقد مهد فشل تحقيق المكاسب الديمقراطية، إلى جانب الانقسامات السياسية ، والتدهور المؤسساتي، والانهيار الاقتصادي الطريق لصعود أية شخصية لإنقاذ الوضع. وقد كان الشعب، المنهك من الفوضى التي أعقبت الثورة، يتوق إلى الاستقرار، حتى لو جاء ذلك على حساب المثل الديمقراطية.
في عام 2019، انتُخِب قيس سعيد، أستاذ القانون السابق الذي لا يتمتع بخبرة ودربة سياسية سابقة، رئيسًا لتونس بدعم شعبي ساحق. وباعتبار ماضيه السياسي الأبيض، استغل قيس خيبة الأمل الواسعة النطاق في الطبقة السياسية بعد الثورة. ووعد باستعادة الاستقامة في المشهد السياسي ومعالجة الاختلالات الديموقراطية الذي ابتليت بها البلاد لما يقرب من عقد من الزمان بعد انتحار الشاب البوعزيزي مفجر الثورة . ومع ذلك، فقد شابت فترة ولايته القصيرة بعودة الاستبداد والديكتاتورية بقناع جديد مما جعل الشعور بالعبثية يتعاظم حيث أدى أسلوبه في الحكم إلى تراجع المكاسب الديمقراطية ذاتها التي كانت الثورة تهدف إلى تحقيقها.
لقد أصبح افتقار قيس سعيد إلى الحنكة والحكمة السياسية واضحا منذ وقت مبكر من رئاسته. فعلى عكس أسلافه الرؤساء فؤاد المبزع والمنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي ومحمد الناصر بدا قيس سعيد غير مهتم بالحوار مع المعارضين السياسيين أو رسم استراتيجية للإجماع، وكلاهما ضروري في سيرورة الديمقراطية الهشة. وبدلاً من ذلك، اتبع منهجا شعبويا، معتمدا على ارتباطه المباشر بالشعب التونسي مع تهميش المؤسسات السياسية القائمة. وبلغ هذا ذروته بقراره المثير للجدل في يوليو 2021 بحل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء، مستندا على قانون الطوارئ الوطنية.
لقد تعرضت تصرفاته المتهورة لانتقادات واسعة النطاق على المستويين الداخلي والخارجي باعتبارها انقلابًا على روح ثورة الياسمين. كما أدت مناوراته لتركيز السلطة في السلطة التنفيذية والحكم بالمراسيم الطارئة إلى تقويض الديمقراطية الناشئة في تونس. وبرر تصرفاته تلك بأنها ضرورية لإنقاذ الأمة من النخب السياسية الفاسدة والانهيار الاقتصادي، لكن اندفاعه الاستبدادي أصبح واضحًا بشكل متزايد من خلال استبعاد خصومه السياسيين وتنحية الشخصيات الرئيسية التي حملت شعلة الثورة، مشيرا إلى نيته إعادة تشكيل المشهد السياسي في تونس على صورته كما يراه لا كما تراها عيون الديموقراطية الحقة.
وبمرور الوقت، انحرف أسلوب الحكم الذي ينتهجه سعيد إلى حد العبث . فقد أظهرت إدارته ميلاً إلى التركيز على نظرية المؤامرة ، وغالبًا ما يلوم قوى سرية في الداخل والخارج على محنة تونس بدلاً من تنفيذ إصلاحات ذات نجاعة آنية وعميقة. وقد رفض باستمرار دعوات الحوار الوطني، واختار بدلاً من ذلك تهميش أحزاب المعارضة وتشكيلات المجتمع المدني. وتم إلغاء دستور عام 2014، وهو الإنجاز الرئيسي لفترة ما بعد الثورة، واستبدله بنظام يمنح الرئيس سلطة شبه مطلقة.
ولعل أحد أبرز البراهين على طموح قيس سعيد هو رغبته الواضحة في الترشح لولاية رئاسية ثانية وربما ثالثة، على الرغم من أن قوانين تونس تقتصر فترة الرئاسة على ولايتين. ويشير خطابه بشكل متزايد إلى ازدرائه لقيود الحكم الديمقراطي، حيث يعتقد أنه الزعيم الوحيد القادر على قيادة تونس خلال أزماتها الراهنة .
وسوم: العدد 1096