الحل هو نبذ الاستبداد

الاستبداد هو الشر الأكبر، فهو الذي يفسد دين الناس وأخلاقهم ودنياهم وأخراهم، يذهب بكرامتهم فيهبط بهم إلى مستوى البهائم، يعيشون في حظيرة محكمة الإغلاق كثيرة الحرس، كل أملهم أن يمنّ عليهم الطاغية بشيء من الفُتات...في نظام الاستبداد الطاغية يكره الأحرار وأصحاب الشخصية القوية والأنفة ويحب الضعاف المهازيل الذين يسبحون بحمده ويلهجون بذكره، يقرّب علماء السوء وأنواع المنافقين الذين يبررون سلوكه المنحرف  وظلمه للناس ونشره للفساد...الاستبداد هو الذي يجلب الاحتلال الأجنبي ويخرّب الدول العامرة ويفتت المجتمعات المتماسكة، هو الفتنة حقا وهو أكبر الكبائر بعد الكفر وهو عدوّ المسلم الأول وعدو كل حر مهما كان دينه، بل قل هو الشيطان الأكبر والسكوت عنه والرضوخ له جريمة في حق أنفسنا، وهذا التقرير أوضح من أن يحتاج إلى تأصيل شرعي، يدركه الناس بالفطرة ويفهمونه بالممارسة وهو من مقاييس استقامة الفطرة أو انحرافها، يكفي في هذا السياق إيراد كلمة ربيعي بن عامر لقائد الفرس "ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"، فهي عبارة تؤصل للحرية و تستهجن الظلم الذي يقوم عليه الاستبداد ويسوّقه بشتى الشعارات الفارغة، فما أظلم من جاء بفكرة طاعة "ولي الأمر" مطلقا، لقد حرّف الكلم عن مواضعة وأتي بإفك مبين يكفي استقراء التاريخ والواقع لدحضه فضلا عن إجالة النظر في الآيات البينات والأحاديث الصريحة التي تنضح بخلاف ادعائه، حتى إن الفقيه الطاهر بن عاشور قاده اجتهاده – وكان أهلا للاجتهاد – فأضاف الحرية إلى الكليات الخمس التي جاءت الشريعة لحفظها، أما نظرية الطاعة المطلقة للحاكم فأصحابها فرضوا على الأمة حكم الطواغيت والمستبدين حتى أذلوها واستباح العدو شوكتها كما رأينا عبر التاريخ ونرى الآن بأعيننا، ولن تغني دندنتهم حول خوف الفتنة لأنهم في الفتنة سقطوا حين ألغوا حقوق الأمة وضخموا حقوق الحاكم بغير وجه حق فأضاع المستبد الرعية وهضم حقوقها وألغى الحريات وحوّل البلاد إلى سجن كبير أو حظيرة حيوانات وجلب الاحتلال الأجنبي المباشر وغير المباشر  إضافة إلى محاربة الدين بطريقة منهجية وإحالته إلى رهبانية مبتدعة أو نصرانية باردة، مع محارقة أخلاق المروءة والطهر والعفة والصدق لتحل محلها سلوكيات النفاق والخسة والنذالة والكذب.

وقد طال الأمد بالناس وهم تحت سطوة الاستبداد حتى غدا عند بعضهم هو الأمر الطبيعي وقد رأينا بعد الربيع العربي الذي شرع في تخليص الشعوب المقهورة من أنظمة الاستبداد من يقول هذه فتنة وقد كنا في زمن الطواغيت في أمن واستقرار ورفاهية، أي استسلم نفسيا للعيشة الحيوانية وفقَد آدميته، وهكذا تضيع النفس السوية وتحل محلها نفسية العبيد الذين يناصبون الحرية العداء ويعدون المطالبة بها تهورا بل تعديا على جدود الشرع، لذلك صرح الرجال الأحرار الأباة أنهم لو خيروا بين إزالة الطغاة وإزالة العبيد لاختاروا إزالة العبيد لأنها مهمة بالغة الصعوبة، هي أصعب من الأولى، وصدق الله في قوله عن فرعون "استخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين"، فهو – سبحانه – لم يحمّل المسؤولية للطاغية وحده بل حمّلها أيضا لقومه الذين تخلوا عن حريتهم وقبلوا بالرضوخ لجبروته وظلمه، فمن أعظم النعم نعمة الحرية التي يجب ألا يتنازل عنها العقلاء بأي حال وإلا كانوا في ميزان الشريعة فاسقين.

وقد أثبت الواقع و التاريخ أنه لا يمكن أن تتأسس حياة طبيعية مزدهرة اقتصاديا وعلميا واجتماعيا في ظل الاستبداد كما أثبتا أن الجيوش النظامية في الدول الخاضعة للاستبداد مجرد فزاعات لمواطنيها أو لجيرانها "الأشقاء" فحسب، ذلك أن الاستبداد يلغي محرك هذه الحياة الأول وهو الإنسان الحر الذي يفكر بنفسه، يستطيع أن يقول لا وليست حياته كلها نعم، ينتقد، يصحح، يبين الأخطاء في الخطط والمناهج والأساليب بينما لا يطيق الاستبداد شيئا من هذا، فمنظومة الاستبداد – وفي كثير من الأحيان المستبد وحده – تعرف كل شيء، ملهمة، تصيب ولا تخطئ، لا تحتاج إلى نقد ذاتي فضلا عن نقد الغير لها، تنتظر من العاملين مهما كان مستواهم ومسؤولياتهم شيئا واحدا هو مباركة قرارات الطاغية ونثر البخور حولها وإعلان أنها أفضل ما خطر على بال البشر...هذا ما تعيشه الشعوب المقهورة من طرف استبداد الفرد والأسرة والطغمة والحزب الواجد من تجربة ماو تسي تونغ وستالين إلى حالة الأنظمة العربية الدكتاتورية، هكذا تستميت الدكتاتوريات في صناعة أجيال تافهة غير مكترثة بالأمة ومستقبلها لأنها تُنشئ طبقتها الحاكمة في معاهد ومدارس مغلقة وتنتقي نماذجها بمواصفات خاصة تعدها لحكم الأجيال الضائعة لتخلد السلطة وتنتهي الأمة البائسة... يكمن الحل في التخلص من الاستبداد والبداية بتحصين الأمة من القابلية له وتطعيمها بالمناعة منه ورفض أي تسويغ له تحت أي مسوغ بحيث يكره الناس الاستبداد كرها كبيرا ولا يقبلون به في أي ظرف بل يقاومونه بالجهاد المدني والعمل التربوي المجتمعي العميق الطويل المدى، ومن لا يشعر بآلام الاستبداد فهو مريض نفسي يجب معالجته حتى يستحسن الحسن ويستقبح القبيح ويحس بخز الذل والقهر والهوان.

وسوم: العدد 1107