مهد الأيديولوجيات: هل سوريا ليست أفغانستان فعلاً؟
تصاعدت المخاوف، عقب سيطرة ميليشيات المعارضة المسلحة، ذات الطابع الإسلامي، على العاصمة السورية دمشق. إذ بات من الممكن القول إن سوريا هي الدولة الأولى في العالم، التي تستفرد بالسيطرة على عاصمتها جماعة مسلحة، كانت في ما مضى جزءاً من تنظيم «القاعدة». كابول الأفغانية بالمناسبة لم تكن يوماً تحت حكم القاعدة، كما أن التنظيم آنذاك لم يكن معنياً بحكم وإدارة دول، بقدر انشغاله بالجهاد العالمي العابر للحدود.
إلا أن حكّام دمشق الجدد سعوا، قدر إمكانهم، لتقديم التطمينات، هم لم يعودوا «قاعدة» منذ سنوات، وأبدوا تفهّماً للتنوّع الديني في المجتمع السوري، كما قاموا بنوع من «النقد الذاتي» لممارساتهم السابقة، ولعدد من ممارسات الحكم الديني في المنطقة. والنتيجة: أعلن محمد البشير رئيس ما يسمى «الحكومة الانتقالية» في سوريا، أن هنالك نموذجاً جديداً للحكم، سمّاه «المدنيّة الشرعية»، ليثير حيرة كل مستمعيه، إذ لا يعلم أحد ما «المدنيّة الشرعية» حقاً، خاصة أن مفردة «مدنيّة» نفسها، التي انتشرت كثيراً إبان «الربيع العربي»، بوصفها نمطاً لنظام الدولة، لا معنى جديّاً لها في العلوم السياسية، فما بالك إذا أضيفت لها «شرعية».
كثيرون من المستبشرين بسقوط نظام الأسد، وخلاص السوريين منه أخيراً، حاولوا التمسّك بالأمل، ليؤكدوا أن الجهاديين تغيّروا حقاً، وباتوا «سوريين» أكثر، والمجتمع السوري سيمنع أي عملية أسلمة شاملة وعنيفة للقانون والحياة العامة، لأن «سوريا ليست أفغانستان». بالتأكيد سوريا ليست أفغانستان، والأخيرة ليست أوزبكستان مثلاً. ولكن يبقى هذا الطرح مثيراً لبعض الأسئلة، أهمها: لماذا التفاؤل بكون الحكّام الجدد قد باتوا أكثر «سوريةً»؟ هل في التاريخ والثقافة السياسية السورية ما يجعلنا نطمئن لميل السوريين إلى احترام قيم، مثل التعددية والتنوّع والحقوق الفردية والاجتماعية؟
الإجابة، ومنذ البداية، «لا» بالتأكيد. تاريخياً شهدت سوريا نشوء وتطور كثير من الأيديولوجيات المتطرفة، التي انبنت كلها على مفهوم الأمة الأحادية، المُلغية لكل فئة قد يشتبه بأنها لا تتسق، من حيث هويتها ولغتها ونمط حياتها وخياراتها السياسية، مع ما يفترض أنه جوهر «الشعب» الواحد المتجذّر في التاريخ، وثقافته وتطلعاته، بل يمكن القول إن سوريا «طليعية» في هذا المجال على المستوى العربي، وقدّمت عدداً من أهم منظري ومؤسسي تنظيمات مثل «البعث» و«القومي السوري» و«القوميين العرب» و«الإخوان المسلمين»، وصولاً إلى القاعدة، التي قد تكون تجربتها السورية متأثرة لحد كبير بأفكار مصطفى ست مريم، المعروف بأبي مصعب السوري. ولا ننسى في هذا السياق ازدهار الفكر الجهادي ومجموعاته في البلد، خاصة عقب احتلال العراق، وتدفّق الجهاديين، بعلم النظام السوري آنذاك وتسهيلاته، لزعزعة الوجود الأمريكي في الجار الشرقي. إلى أن وصلنا إلى ظهور أشد التنظيمات الإسلامية دمويةً، أي «داعش»، على أرض الشام والعراق.
سوريا ليست أفغانستان إذن، بمعنى أنها قد تتفوّق عليها أيديولوجياً في إنتاج العقائد السياسية الحديثة، التي تتخيّل أمماً منظّمة، في معارك تاريخية أو فوق تاريخية. إلا أن هذه الإجابة تطرح أسئلة جديدة: أي ثورة وتغيير ممكنين في «مهد الأيديولوجيات» هذا؟ وهل يمكن لتحديثات أيديولوجية، من نمط «المدنية الشرعية»، أن تطمئن أحداً، باستثناء أنصار هذه النسخة أو تلك من الأمة الأحادية؟
بعث وقاعدة
من اللافت في سيرة حياة أحمد الشرع قائد «هيئة تحرير الشام»، أنه يتحدّر من عائلة بعثية، فقد كان والده حسين الشرع أكاديمياً معروفاً، يميل، مثل عدد مهم من البعثيين السوريين، إلى النسخة العراقية من الحزب. وهذا الميل العراقي، إن صح التعبير، انتقل إلى الابن، الذي سافر إلى العراق ليشارك في النشاط الجهادي هناك. يمكن تتبّع خطوات تمازج بقايا البعث العراقي مع «القاعدة»، في إطار ما يسمى «المقاومة العراقية»، التي شارك فيها كثير من الضباط والحزبيين السابقين، وتطرّفت في إسلاميتها يوماً بعد آخر، إلا أن بداية الأسلمة لم تكن مع الاحتلال الأمريكي، إذ أمضى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عقد التسعينيات في «حملات إيمانية»، طالت جهاز الدولة والقانون والحزب، والمجتمع عموماً.
الشرع الابن إذن نتيجة تجربة أيديولوجية عميقة، تجذّرت بين سوريا والعراق، ودمجت عناصر العروبة والإسلام والعشائرية، المُعاد إنتاجها بالعلاقة مع جهاز الدولة، أو في الحرب ضده. ولم يكن يوماً «نبتاً غريباً» عن الأرض السورية، حتى في عز مرحلته الجهادية المتطرّفة. إنه ابن «الأمة» إياها، التي لا يمكن أن تقوم إلا على ركيزتين: تنظيم المجتمع وحشده على عقيدة سياسية واحدة أولاً، عبر نخبة مؤدلجة جيداً؛ والدخول ثانياً في المعركة ضد العدو. أحياناً تنوب النخبة عن المجتمع في المعركة، كما في خلايا الجهاديين العابرة للحدود، وقبلها مناضلي الحركات القومية – اليسارية، الذين قاتلوا على مساحة المشرق كلها، من فلسطين إلى عُمان؛ وأحياناً أخرى تحاول إنتاج مؤسسات اجتماعية وسياسية راسخة، لـ»تعبئة» المجتمع، بما يتسق مع أهداف المعركة، كما في كل تجارب الدول القومية في العالم العربي. ولكن في كل الأحوال، لا بد من تأديب المجتمع، ورفع سويته، وإنتاج هوية متسقة له، ليكون أهلاً لمهمة تاريخية ما. يمكن اعتبار كل هذا جوهرياً في التحديث العربي، خاصة في مرحلة التحرر الوطني، ولا يشذّ عنه قوميون أو يساريون أو إسلاميون، إلا في ما ندر.
قد يكون الشرع انتقل إلى مرحلة «الحوكمة»، منذ حكمه لأجزاء من محافظة إدلب السورية، إذ بات لا بد من مؤسسات، تراعي الوضع الاجتماعي القائم، وتحاول «تطويره» ببعض الصبر، نحو الغاية الأسمى. وهذا يتسق تماماً مع أفكار أبي مصعب السوري، التي بدورها ليست غريبة عن أيديولوجيات أخرى شهدتها المنطقة. وهكذا فإن «المدنيّة الشرعية» قد تكون نمطاً من الحكم المؤسساتي، الذي يؤدّب المجتمع بصبر، وبالتدريج، ليكون صالحا لـ»القضية». لا ندري حتى الآن ما القضية التي سيحملها حكّام دمشق الجدد، بعد انتصارهم في قضيتهم الأولى بإسقاط النظام. غالباً لن تكون القضية الفلسطينية، فتصريحات الشرع واضحة بهذا الخصوص. هل هي بناء نموذج إسلامي في بلد متعدد طائفياً، ولكنه يبقى قاعدة «الأمة» الأساسية؟ خطبة الشرع في الجامع الأموي، التي أهدى فيها انتصاره للأمة، قد ترجّح هذا الاحتمال.
ليست «المدنية الشرعية» بالأمر الجديد، إنها التطور الطبيعي لمزيج من الأيديولوجيات. ومن البعث إلى «القاعدة» عايشنا أنماطاً متعددة منها، تختلف فقط في درجة تشددها وأسلمتها، ولكن ليس في طابعها الأساسي: نمط من الهندسة الاجتماعية، لإنتاج آلة حرب ما، ستشتغل أولاً بالتأكيد ضد جانب من مجتمعها، لضمان اتساقه، وإنتاج «الشعب» الحقيقي والأصيل، المتطابق مع هويته، المحددة بشكل سابق عليه، وعلى ممارساته وتعبيراته.
البراغماتية الشرعية
إلا أن كثيرين يركزون على «براغماتية» الشرع، وليس «أيديولوجيته». بمعنى أنه بات رجل سياسة، يهتم بمصالح وعلاقات معيّنة، في الداخل والخارج، وربما صار متأثراً بالنموذج الإسلامي التركي، الذي لا تمنعه إسلاميته من أن يكون عضواً في حلف الناتو، أو تدفعه لرفض العلاقات الجيدة مع إسرائيل. قد تكون مشكلة هذا التصور، افتراض أن «البراغماتية» أمر مختلف جذرياً عن الأيديولوجيا. وهذا غير صحيح، إذ أن تعريف المنفعة نفسه، وأفضل السبل لتحقيقها، مرتبط بسلسلة متسقة من التصورات والأفكار والعقائد، تشكّل إطاراً معيارياً، لا يمكن للبراغماتي أن يعي ذاته من دونه، أي أنها طرح أيديولوجي أيضاً. وتاريخياً لم يوجد قائد ناجح، لم يمارس «البراغماتية» ببراعة، ولكن أي براغماتية؟ علينا أن نفهم أيديولوجيته أولاً كي نحدد مقياساً لنفعيته. هل حركة طالبان اليوم مثلاً غير «براغماتية»؟ قد يسعى حاكم دمشق الجديد إلى «انفتاح على العالم»، لنيل الشرعية، واستجلاب الأموال، سواءً على هيئة مساعدات أو استثمارات، ولكن هذا لن يعني على الإطلاق أنه نسي وعوده للأمة، سواء الوعود القديمة، أو الجديدة التي أطلقها مؤخراً من حرم الجامع الأموي.
«تفكيك» سوريا
هنالك جانب آخر في الهندسة الاجتماعية، التي عرفناها مع التحديث المرتبط بحقبة التحرر الوطني وبعد الاستعمار: ليس فقط الانتصار في معركة تاريخية ضد العدو، بل أيضاً، وأساساً، إيجاد «حل» لأزمات التشكّل الوطني، في مساحات محددة بحدود صارمة، بات عليها أن تصبح دولاً حديثة.
الإسلام والعروبة كانا الاقتراحين الأساسيين، إلا أن سكان المساحات المذكورة لم يكونوا كلهم عرباً ومسلمين، أو لم يفهموا أنفسهم سياسياً بهذا الشكل. هكذا كان لا بد من صياغة «أغلبية» واضحة المعالم، يمكن تتبّع نشأتها عبر إجراءات متعددة، من المجازر والتهجير على أساس عرقي وديني، في الحالات الأكثر تطرفاً؛ إلى صياغة الهوية عبر القانون والتعليم والثقافة الجماهيرية والمؤسسات الدينية الرسمية، وغيرها من الإجراءات المرتبطة بأجهزة الدولة.
«الأغلبية» متغلّبة بطبعها، وقد تقبل بوجود أقليات إلى جانبها، ولكن تحت سقفها، وبما لا يخالف أساسيات شرعها. أي تقبلها بالصفة الذميّة المُحدّثة: التخلّي عن أساسيات المساواة في الحقوق، والخضوع للهوية العربية الإسلامية، المعاد إنتاجها سياسياً؛ مقابل السماح بممارسة بعض الطقوس، والاستمرار في الحياة. ربما فقدت «الأغلبية» صلاحيتها وقدرتها على الاستمرار، في الحالة السورية بالذات. والسعي لاستمرار تغلّبها وصفة لحرب أهلية دائمة، واضطرابات اجتماعية لا تنتهي، خاصة أن ثمن فهمنا لأنفسنا، بوصفنا عرباً ومسلمين بالهوية السياسية، قادنا من البعث إلى القاعدة، وفكك كل إمكانية لإنتاج الاجماع.
لا ندري إذا كان أحمد الشرع سيستمر حاكماً لدمشق سنوات طويلة، ولكن سلطته لن تترسخ بسهولة بالتأكيد. ربما كان الأجدى «تفكيك» سوريا التي تعودنا عليها، ليس بمعنى تقسيمها، وإنما تجاوز فكرة «الأغلبية»، المهيمنة بهويتها على دولة مركزية، سواء كانت عربية مسلمة، كما في حالة البعث؛ أو عربية سنيّة إسلاموية، كما في حالة الهيئة. يمكننا أن نردد طويلاً «سوريا ليست أفغانستان»، ولكن هذا بحد ذاته ليس مطمئناً أبداً، وربما يجب أن نفكر الآن بـ»سوريا ليست نفسها»، فقد عانينا كثيراً من «سوريا» التي نعرفها.
وسوم: العدد 1108