سوريا وفرنسا: أي مستقبل بعد طيّ الماضي؟
كثّف الاتحاد الأوروبي حراكه الدبلوماسي في اتجاه سوريا، وكان لقاء الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك ونظيرها الفرنسي جان نويل بارو، بأحمد الشرع، قائد الإدارة السياسية الجديدة في البلاد، أمس الجمعة، واحدا من الخطوات اللافتة في هذا السياق.
تمثّل الزيارة، من جهة، تفهّما للتغيير السياسي الهائل الذي طرأ على سوريا، وإعلانا لتقبل وجود الحكم الجديد، ومحاولة، من جهة أخرى، للاشتباك الإيجابي مع هذا الحكم، كمقدمة للاعتراف السياسي به، ولحجز مكان في قائمة الدول المؤثرة على المجريات اللاحقة للمرحلة الانتقالية التي بدأت مع خلاص السوريين من نظام بشار الأسد الدكتاتوري في 8 ديسمبر/ كانون أول الماضي.
لفرنسا «علاقة خاصة» بسوريا، تتمثّل بحقبة الاستعمار التي دامت 26 عاما (تموز/يوليو 1920 حتى 17 نيسان/ابريل 1946) والتي تركت آثارها العميقة على بنى دولة الاستقلال، وبالخصوص في ما يسمى «الفيلق السوري» (وسمي لاحقا «القوات الخاصة في المشرق») والذي اتبعت فيه مبدأ «فرّق تسد» فتم استبعاد سكان سوريا المسلمين السنّة وتكون من الأقليات العلوية والمسيحية والدرزية والشركسية!
اتبعت فرنسا أيضا سياسة تقسيم بلاد الشام، ففككت أقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا عن دمشق وألحقتها بجبل لبنان، وأعلنت بعد ذلك بعشرة أيام «دولة لبنان الكبير» ثم رسّمت حدود «دولة دمشق» عبر فك الأردن وفلسطين عنها (الملحقين بالانتداب البريطاني حسب اتفاقية سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو) وأعلنت «دولة حلب» و«دولة جبل العلويين» (نوفمبر/تشرين ثاني 1920) ثم «دولة جبل الدروز» (آذار/مارس 1921) وفصل لواء إسكندرون عن حلب (ضمته تركيا عام 1939). وكان تأسيس ما يسمى «المكتب الثاني» (وكالة الاستخبارات العسكرية) إحدى البنى التي ورثتها دولة الاستقلال الحديثة من فرنسا.
كافح السوريون، في حينها، هذه التقسيمات، ونجحوا بعد إضراب عام 1936، ومفاوضات مع الحكومة الفرنسية فأعيد ضم دولتي العلويين والدروز للجمهورية السورية، وتنازل ممثلو الدولتين عن «الامتيازات الفدرالية» لتحقيق المساواة بين جميع السوريين، لكن ذلك الإرث ظل موجودا في البنى التحتية للسياسة والجيش، ويمكن اعتبار ما حصل الشهر الماضي، بداية لنهاية «جيش الشرق» ولإعادة بناء سوريا جديدة يؤمن أبناؤها فعلا بضرورة توحّدهم.
لا نعلم إذا كان وزير الخارجية الفرنسي قام بمراجعة لتاريخ بلاده مع سوريا قبل الزيارة الحالية لدمشق لكن تصريحاته تبدو أقرب للحاضر الذي يتشكّل حاليا في سوريا، والمستقبل الذي يأمل به السوريون، ومن ذلك إعلانه أن بعثة بلاده الدبلوماسية ستعود قريبا لمزاولة أعمالها، وعن تنظيم مؤتمر لمرافقة الفترة الانتقالية، والمبادرة بإرسال خبراء لتفكيك ونزع الأسلحة الكيميائية، وتأكيده على المشاركة «في نهضة السوريين بعد عقود وسنوات من ظلام نظام الأسد» وعلى أن «لا مصالحة في سوريا من دون تحقيق عدالة انتقالية» و«عقاب رموز النظام السابق». واحد من التصريحات اللافتة لبارو كانت دعوته الأكراد إلى تسليم السلاح والاندماج في الحياة السياسية وتوضيحه أن بلاده «لن تقبل بالإرهاب» وأن بلاده تعمل للتوصل لاتفاق بين تركيا والأكراد.
يقدّم التغيير السياسي الجاري في سوريا مناسبة مفيدة لإعادة قراءة التاريخ الحديث لبلاد الشام، التي ما تزال تكابد تداعيات الاستعمار ونتائج الحرب العالمية الثانية، ويمكن اعتبار سنوات الدكتاتورية المتوحشة منذ عام 1970، وضمنها 14 سنة من الثورة على آل الأسد، نضالا مستميتا للتخلّص من تلك «الدولة العسكرية ـ الأمنية» التي استندت إلى الإرث الاستعماريّ في التقسيم الطائفي والحكم العسكري ـ الأمنيّ، الذي افتقد، مع ذلك، أساسيات بناء الدولة الديمقراطية التي مكّنت الغرب من الخروج من إرث الجنرالات، ولكنه ما زال حاضرا في سياسات اليمين المتطرّف، الذي يهدد بالعودة لحكم أوروبا.
وسوم: العدد 1110