قصة الدستور السوري و العقد الاجتماعي الجزء الثاني

dfdffdf1112.jpg

في اليوم الثاني لانقلاب سامي الحناوي تم تكليف الرئيس الأسبق هاشم أتاسي برئاسة حكومة، و حضرت الانتخابات أيضا جمعية تأسيسية أصدروا قانونا جديدا للانتخابات، ودعت الهيئات الناخب و شاركت فيه المرأة السورية لأول مرة في التاريخ بالاقتراع وعقدت الجمعية أولى اجتماعاتها في الثاني عشر من ديسمبر؛ وانتخب رشدي كيخيا، عميد حزب الشعب رئيسا لها، وهاشم الأتاسي رئيسا للجمهورية. وتم تشكيل الجمعية، كم شكلت لجنة صياغة الدستور في ٢٨ ديسمبر وعملت بها مختلف القوى السياسية وغير السياسية، واطلعت على 15 دستورا أوروبيا وآسيويا للوصول إلى أرقى المعايير الممكنة وانتهت اللجنة من عملها في العاشر من إبريل نيسان، وبدأت اللجنة بتحضير المسودة في الدورة الصيفية في 2 يوليو تموز، وكانت المسودة تتألف من 177 مادة خلال المناقشات، لكن طرح الدستور بصيغته النهائية مؤلفا من 166 مادة وتم اعتبار الجمعية التأسيسية مجلسا للنواب بعد إقرار الدستور، أي دستور 1950. لقد حافظ على طبيعته البرلمانية و قلص من صلاحيات رئيس الجمهورية، وسحب منه نقض القوانين ونقض المراسيم و أمهل عدة أيام فقط للتوقيع عليها، وترك له اختصاصات بروتوكول بالتصديق على المعاهدات الدولية وتعيين البعثات الدبلوماسية، وقبول البعثات الأجنبية ومنح العفو الخاص فقط و تمثيل الدولة ودعوة مجلس الوزراء للانعقاد برئاسته، وتوجيه الخطابات للأمة السورية، وزاد من صلاحيات البرلمان بمنعه عن التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة، حتى لو كان ذلك مؤقتا كما أوجب على الحكومة الاستقالة في بداية كل فصل تشريعي جديد، وعزز من سلطة القضاء باستحداث المحكمة الدستورية العليا مواد الحقوق العامة بدستور 1950. حيث تم توسيعها جدا وصونها حتى بلغت 28 مادة تختص وحدها بالحقوق والحريات العامة ومنها حصانة المنازل وحرية الرأي وحرية الصحافة وحرية الإجماع والتظاهر والمحاكمة العادلة ومنع الاعتقال التعسفي بكل صورة؛ والتوقيف دون محاكمة لفترة طويلة. وحفظ حق الملكية و المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية و السياسية . لأن العمل هو حق لكل مواطن يجب على الدولة أن تسعى لتأمينه، فضلا عن رعاية المواطنين المرضى و العجزة والمعوقين وحماية الطوائف والأقليات الدينية. كما نص الدستور على أن التعليم حق لكل مواطن إلزامي ومجاني و أوجب على الدولة إلغاء الأمية وأعطاها مهلة عشر سنوات، وأقر الدستور رسميا في الخامس من سبتمبر أيلول 1950. بعد الانقلاب الثاني للشيشكلي عام 1951 عطل العمل بهذا الدستور بينما خلال انقلابه الأول حافظ فيه على السلطة السياسية سالمة، ثم عدل الدستور قليلا وجعل أول دستور أمام رئيس الجمهورية خلافا لما كان سائدا عليه في السابق، "أن الوزراء مسؤولين مباشرة أمام مجلس النواب و هذا يعني تعديل مهم"، وفي المرة الثانية التي عطل فيها العمل بالدستوركانت خلال العامين 1958 -1961. أي المدة التي كانت فيها سوريا جزءا من الجمهورية العربية المتحدة . حيث تم استبداله بدستور مؤقت وضعه جمال عبدالناصر، وبعد الانفصال عن الجمهورية أعيد العمل به مرة ثانية لحين انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي ، في الثامن من آذار عن النظام الدستوري القائم والذي تم تعليق العمل فيه بعد انقلاب المقبورحافظ الأسد عام 1970. حيث بدأ التحضير لدستور جديد وبالفعل عام 1973 ، تم اعتماد دستور الجمهورية العربية السورية، ومنح أوسع سلطات لرئيس جمهورية بالتاريخ وصارت الدولة هي الرئيس و الرئيس هو الدولة وتميز هذا الدستور بالمادة الثامنة، التي جعلت حزب البعث العربي الاشتراكي الحزب القائد للدولة والمجتمع ومدة الرئاسة سبع سنوات وهي الأطول أيضا في التاريخ، ولكن التجديد يتم باستفتاء شعبي لمرشح حزب البعث بدون انتخابات، أي مرشح وحيد ويتم بموجب هذا الدستور انتخاب الأسد المقبور والتجديد له خمس مرات لحين وفاته لعام 2000 تم تعديل الدستور بخمس دقائق فقط؟!!! بتخفيض سن الرئيس من 40 سنة إلى 34 سنة، وبذلك تم تمرير المخلوع الفار بشار كرئيس للجمهورية. مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 كانت إحدى مطالب الثورة إلغاء المادة الثامنة وتحديد مدة الرئاسة لفترتين فقط، وجعل الانتخاب ليس مرشحا واحدا فقط وإنما فتح المجال لمرشحين آخرين، و قد استجاب هذا الرئيس المخلوع الفار و عدل الدستور عام 2012 ، ألغى فيه الاستفتاء و جعل الرئاسة بالانتخاب، ويجوز البقاء فترتين رئاسيتين فقط، لكن وقتها تم تعديل الدستور كي يتم إعادة انتخابه عام 2014 و حتى عام 2028 ليتم عمل دستور جديد يصلح لحكم ولي عهده الابن حافظ.

اليوم يتطلع السوريون إلى دستور حقيقي يعبر عن تطلعاتهم و يضمن حقوقهم، دستور يجمع بين الماضي العريق و الرؤية المستقبلية لسوريا الديمقراطية والمتنوعة. و إذا عدنا إلى الدساتير السابقة سنرى أن الدساتير الحقيقية استغرقت بين السنتين و نصف إلى ثلاث سنوات، واليوم من الواضح أن المطلوب ليس تعديل دستوري بل وضع دستور حقيقي و تجاوز الدستور الحالي، و إعادة صياغة القواعد الأساسية للدولة السورية و إنشاء عقد سوري اجتماعي حقيقي، يبدأ بخطوات قانونية واضحة من خلال إطلاق حوار وطني شامل يجمع شمل القوى السياسية والمجتمعية من أحزاب و منظمات المجتمع المدني و المستقلين، من ثم صياغة مسودة الدستور و يتم تشكيل لجنة دستورية مؤلفة من خبراء قانونيين و ممثلين من كافة الأطياف السياسية و الاجتماعية ، و عرض المسودة على استفتاء شعبي لضمان أن الدستور الجديد يعكس إرادة الشعب السوري بالكامل، و هناك شروط أساسية أولها وجود بيئة سياسية سليمة تعتمد على حرية تشكيل الأحزاب وانتخابات نزيهة و شفافة مع ضمان الحريات الأساسية، و الحريات العامة وهذا يستغرق وقت للجنة تحضيرية و حوار وطني شامل وشفاف من ستة أشهر إلى سنة، ثم إجراء استفتاء خلال ستة أشهر و بالتالي العملية تستغرق بين السنتين إلى ثلاث سنوات لتحقيق دستور متكامل ومستدام. لكن العمل حاليا بدستور 1950 و بشكل مؤقت هو فكرة جيدة، لأنه دستور قوي من ناحية الصياغة و التركيب القانوني والضمانات المدنية التي يقدمها. لذلك يمكن إقراره هذه الفترة. ويمكن عمل إعلان دستوري كوثيقة قانونية صادرة عن السلطة الانتقالية أو الثورية بفترة محددة، لتنظيم شؤون الدولة و إرساء القواعد الأساسية للحكم إلى حين وضع دستور دائم و الإعلان الدستوري يكون مؤقت و يتم استخدامه لفترة انتقالية، أو استثنائية شاملة تحتوي على المبادئ الأساسية لتنظيم السلطات العامة كالسلطة التنفيذية و التشريعية و القضائية حتى يحل محله دستور جديد، إذا تم تعطيله أو حدوث تغيير سياسي كالثورة التي حصلت في سوريا . و يعتبر القانون في هذه الفترة الزمنية التي يعمل فيها ملزم من خلال تنظيم السلطة لتجنب الفراغ القانوني أو الدستوري، في الدولة طوال الفترة الانتقالية. و يبقى الدستور لا يمثل فقط وثيقة قانونية بل هو حلم دستوري لكل السوريين مبني على تحقيق العدالة و المساواة و كرامة الإنسان مقدسة لا تمس. و يعتبر دستور جنوب إفريقيا من أحدث الدساتير على مستوى العالم الذي يمثل الديمقراطية التوافقية خير تمثيل، هذا الدستور الذي استغرق بناؤه سبع سنوات و اعتبر بمثابة ولادة أمة جنوب إفريقية جديدة. لذلك لابد من التركيز على إفراز طبقة سياسية تكون قادرة على تحمل مسؤوليتها بإرادة الشعب والحوار و العمل الجاد و المستمر حتى تستطيع سوريا الانطلاق نحو المستقبل الواعد من خلال دستور سوري؛ يلبي طموحات السوريين و يكتب بأيد سورية سورية ، في عقد اجتماعي صحيح يشمل جميع السوريين لإعادة إحياء العمل السياسي و إنشاء أحزاب سياسية. والله ولي التوفيق لما فيه الخير كله لبلدنا الحبيب سوريا .

يتبع ….

وسوم: العدد 1112