الجولان: بين النبي شعيب و»تلّة الصراخ»
للسوريات والسوريين أبناء بلدات وقرى هضبة الجولان السورية المحتلة، في مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنية والغجر أساساً، الإعراب عن الرأي في الزيارة التي قام بها رجال دين سوريون، أتباع الطائفة الدرزية، إلى مقام النبي شعيب قرب طبريا. وليست هذه الإحالة بمثابة اتكاء بسيط على مبدأ قديم يؤكد أنّ أهل الجولان أدرى بشعابها، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الجولانيين واقعون تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 1967، أي قبل ضمّ الهضبة أواخر 1981، وسطروا ويواصلون تسطير فصول ملحمية في مقاومة الأسْرَلة والتهويد والاستيطان، والتشديد على الانتماء إلى الهوية الوطنية السورية.
وهذه سطور تشرفت بزيارة الجولان المحتلّ مراراً، لأسباب شتى وطنية وإنسانية وعاطفية، تكفّل أحد الأخوة الجولانيين بمنحها صفة خاصة تماماً من حيث المشروعية والحقّ والواجب معاً: نحن، أبناء الجولان، أسرى الاحتلال الإسرائيلي، وزيارة الأسير فريضة حدّ أدنى على أهله! بالطبع، ومطلقاً أيضاً، ومن هنا لصاحب هذا التوصيف وأخواته وإخوته أبناء الهضبة المحتلة أن يقرأوا عبور رجال الدين السوريين الدروز إلى عمق فلسطيني، وليس إلى مساحة جولانية فقط؛ وما إذا كانت تتقصد الحجّ إلى مقام ديني، أم تتّسق مع مساعٍ أخرى خبيثة أعرب عنها ساسة الاحتلال بصدد بني معروف في جنوب سوريا، بعد سقوط نظام «الحركة التصحيحية».
وهذه السطور لا تُغفل حقيقة كبرى مركزية، مفادها أنّ زيارة رجال الدين السوريين الدروز هي الأولى منذ 50 عاماً على الأقلّ؛ أي، في تشخيص آخر موازٍ، على امتداد حكم الأسدَين حافظ وبشار. وليس الأمر أنّ النظام البائد حظر الزيارات هذه من واقع الغيرة الوطنية ورفض التطبيع، بل لأنّ المنع كان مظهراً واحداً من سلسلة مظاهر تقمع الحريات العامة؛ وبالتالي من الإنصاف القول إنّ زائري مقام النبي شعيب اليوم امتلكوا من هوامش الحرّية ما يكفي للقيام بالزيارة من دون احتساب عواقب التنكيل والاضطهاد والتجريم، هذه التي لا يلوح أنّ أياً منها سوف ينتظرهم عند العودة إلى سوريا.
وهذه السطور تستذكر، ثالثاً، كتاباً متميزاً عن هضبة الجولان صدر بالإنكليزية سنة 2023 ضمن منشورات I.B. Tauris في لندن، تحت عنوان «مرتفعات الجولان: حكاية لم تُسرد»؛ بتحرير مشترك من منى دجاني ومنير فخر الدين ومايكل ميسون. والكتاب احتوى على 16 مساهمة، ومقدمة وافية، وخاتمة خلاصات، وفّرت جميعها مادة غنية ومتعددة الجوانب كانت (وبعضها غير القليل يظلّ) خافياً أو مخفياً، غائباً أو مغيّباً، على نحو ما في العنوان من تلميح إلى وقائع ومعطيات وحقائق لم تتكشف كما يليق بها في سردية متكاملة، وبالتالي لم تجد ما تستحقّ من إظهار علني. ثمة جانب آخر خاصّ الدلالة في أنّ محرّري الكتاب يجمعون بين الجنسية الفلسطينية (دجاني)، والسورية (فخر الدين)، والبريطانية (ميسون)؛ وهذا التقاء غير شائع على مستوى المحتد أوّلاً، ثمّ مستويات الاختصاص التي تبدأ من المناخ والبيئة والمياه، وتمرّ بالفلسفة والدراسات الثقافية، وتنتهي عند العلوم السياسية والاقتصاد. وهذا التنوّع منح الكتاب قابلية تحريرٍ عالية المرونة، أتاحت تسخير مناهج بحثية متعددة، ونُظُماً دراسية متقاطعة، وثراء ملحوظاً في تناول موضوعات الأقسام الخمسة: استيطان/ استعمار الحياة اليومية، سياسة المحكوم، سياسة الفنّ الجولاني، سياسة الشباب الجولاني والتربية، إيكولوجيا سياسية جولانية.
ويقول الناشر على الغلاف الأخير إنّ الكتاب «يركّز على جماعة أقوام أصلية تُعرف باسم الجولانيين، وبصفة خاصة على تجربتهم مع الاحتلال في واقع الحياة اليومية وسياسة المقاومة في وجه الاستعمار الاستيطاني (…) وهنالك مساهمات حول إضراب 1982 الذي دام ستة أشهر، وتعبئة الشباب في الجولان المحتل، وحركات التضامن الفلسطينية، والفنّ والكتابة في الجولان، وترسيم الخرائط المضاد، ثمّ التاريخ السرّي لمنتجع التزلج الإسرائيلي».
خاتمة الكتاب تقتبس الشاعر الجولاني ياسر خنجر، ابن مجدل شمس والأسير السابق لدى الاحتلال، من قصيدة «فجر»: أقفلَ الباب بإحكام/ أسدلَ الستائر على النوافذ كلّها/ سدّ الثقوب بأقمشة قديمة/ إلى أن ساد العتم/ كان يكفي أن يطرق الباب زائرٌ/ أو تائهٌ ضلّ الطريق/ كي يعود الضوء إليّ/ كان يكفي أن تعبر في خيالي/ كي تتعربش الشمسُ على رموشي/ وينسكب الفجر».
غلاف الكتاب لوحة بعنوان «تلّة الصراخ»، للفنان الجولاني علاء عرمون، تلتقط مشهداً من ذلك اللقاء الفريد الذي ظلّ يتكرر على مبعدة 3 كم من مجدل شمس، ملاصقاً لخطّ الهدنة Alpha؛ حيث يتجمع الجولانيون على التلّة المقابلة من الأرض السورية، وسفح الوادي في طرف الاحتلال، ويجري «اللقاء» العجيب: عبر الصراخ أوّلاً، ثمّ مكبرات الصوت، والمناظير المقرّبة. وهذه سطور كان لها شرف حضور العديد من عجائب ذلك الطقس، خلال خدمة مع قوّات حفظ السلام الأممية (أندوف) مطلع ثمانينيات القرن المنصرم؛ ولعلّ الأعجب فيها لم يكن الاحتفال بمناسبات عائلية مختلفة، بل إحياء العيد الوطني السوري، أو «عيد الجلاء» كما نسمّيه، يوم 17 نيسان (أبريل) من كلّ عام.
وأياً كانت السياقات المختلفة بين مقام النبي شعيب وتلّة الصراخ، يبقى ثابتاً أنّ من المحال اقتلاع هوية سورية جامعة، تضرب بجذورها في العميق الخافق من وجدان الجولان.
وسوم: العدد 1120