ترامب وسوريا الجديدة: دليل الحائر إلى قديم يتقادم

صبحي حديدي

تقرير وكالة أنباء رويترز، الذي أفاد بأنّ الولايات المتحدة سلّمت السلطات الحاكمة اليوم في سوريا «لائحة شروط» مقابل تخفيف جزئي للعقوبات الأمريكية المفروضة منذ سنوات، مسهب على غير المألوف في تقارير من هذا الطراز، تصدر عن وكالة أنباء عريقة حريصة على صدق ما تخبر به، أو تكشف النقاب عنه. ومع حفظ الجهد لكاتبتَيْ التقرير، حميرة باموق (خدمة 20 سنة في الوكالة، وتغطيات من واشنطن ودبي والقاهرة وتركيا وسوريا…)؛ ومايا جبيلي (مديرة مكتب الوكالة في لبنان وسوريا والأردن، وعملت لصالح وكالة الأنباء الفرنسية في بغداد وإسطنبول وكردستان العراق…)؛ فإنّ الأصول المشرقية للكاتبتَين قد توفّر معطى مبدئياً على نبرة «كشف الأستار» التي تكتنف كتابة التقرير، وقد ترجّح مؤشراً أو اثنين على جهة التسريب أمريكية كانت أم سورية، وكلا الطرفين يُذكر كمصدر للتقرير في كلّ حال.

يقول التقرير إنّ نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون المشرق وسوريا، ناتاشا فرانشيسي، سلمّت اللائحة إلى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني؛ خلال اجتماع، وجهاً لوجه، على هامش مؤتمر مانحي سوريا في بروكسيل، 18 آذار (مارس) الجاري. كذلك يقتضي الإنصاف التنويه إلى ما ذكرته الكاتبتان، من أنهما تحدثتا حول الموضوع مع 6 مصادر: اثنان من الولايات المتحدة، واحد سوري، دبلوماسي إقليمي، واثنان من واشنطن على صلة بالموضوع، وكلهم طلبوا إغفال أسمائهم. وما لم يصدر نفي رسمي، أمريكي أو سوري، فليس ثمة عناصر في التقرير تستوجب استبعاده؛ أو ليس جملة وتفصيلاً، على الأقل.

جانب آخر يرجّح صحّة المعلومات التي نقلتها رويترز، يخصّ محتوى التقرير هذه المرّة وليس ملابسات الشكل التي أحاطت بتسليمه؛ خاصة وأنّ الحضور الرسمي الأمريكي في مؤتمر بروكسيل كان منخفض المستوى، وسبق للإدارة أن امتنعت عن التوقيع على بيان مؤتمر باريس حول سوريا، أواسط شباط (فبراير) الماضي. ففي لائحة الشروط يتجلى على نحو واضح غياب مقاربة أمريكية تجاه سوريا الجديدة، متكاملة في الحدود الدنيا، قابلة لملاقاة مناخَيْن متضاربين في صفوف حلفاء أمريكا وأصدقائها: جانب دولة الاحتلال، حيث المواقف المعادية والاستفزازية، غير المنعتقة من مطامع إسرائيلية توسعية في الأراضي السورية، قديمة ومتجددة؛ وجانب الاتحاد الأوروبي، وتركيا، ودول خليجية فاعلة مثل السعودية وقطر، حيث الترحيب بإدارة أحمد الشرع وتشجيعها.

ذلك لأنّ «اللائحة» تبدو أقرب إلى مطالب مسبقة الافتراض، مسبقة التفضيل، مسبقة الاشتراط، تكررت في الماضي من قبيل تحصيل الحاصل لدى إدارات أمريكية متعاقبة، والأنكى أنّ بعضها (مثل ملفّ الأسلحة الكيميائية) شهد في الماضي طرازاً من التواطؤ الأمريكي ــ الروسي؛ وبعضها الثاني غير بعيد عن النكتة السمجة (مثل التعاون حول مكافحة الإرهاب، مع سلطات حاكمة ما تزال واشنطن تصنفها في خانة «الإرهاب»)؛ وبعضها الثالث إجرائي كاريكاتوري يطالب السلطات الجديدة بتشكيل مجموعة ارتباط للتعاون مع الولايات المتحدة في جهود العثور على الصحافي الأمريكي أوستن تايس، المغيّب منذ صيف 2012، في بلد يُعدّ المغيبون من أبنائه بعشرات الآلاف!

ما دام انضمام السلطات الحاكمة اليوم في سوريا إلى اتفاقيات أبراهام التطبيعية ليس ضمن لائحة الشروط، فهذا يعني أنّ إرجاء اعتماد المقاربة سوف ينتظر إنضاج المزيد من شروط تخديم المصالح الأمريكية على أصعدة محلية سورية وإقليمية

مؤشر آخر على اضطراب البيت الأبيض، إذا لم يذهب المرء إلى حال الحيرة وبعض التخبط في صياغة خطّ تجاه سوريا الجديدة متكامل ومتّسق في الحدود الدنيا، هو المقابل الذي تعرضه واشنطن من رفع جزئي للعقوبات؛ إذْ ينحصر في تمديد لمدّة سنتين يشمل إعفاء راهناً للتحويلات المالية مع مؤسسات حكومية سورية، واحتمال إصدار إعفاء لاحق. والتجربة أثبتت عقم الإعفاء في ضوء تدبير واحد بالغ البساطة: عرقلة، وبالتالي الحيلولة دون، تمكين دولة قطر من المساهمة في صرف رواتب العاملين في الدولة السورية عن طريق المصرف المركزي السوري. غير بعيد عن النكتة، أيضاً، عرض واشنطن الإقرار بوحدة وتكامل الأراضي السورية؛ هذه التي سبق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن انتهك حرمتها علانية، حين اعترف بالسيادة الإسرائيلية على مستوطنات الجولان السوري المحتل!

ولم يكن خافياً، بل لم تكفّ الإدارة عن استهلاك، موقفٌ يختزل السلطات الحاكمة في سوريا الجديدة في منظارَين، متكرّرَين بدورهما، وجرى استهلاكهما من جانب مساعدي ترامب وحملته الانتخابية حتى قبل أن يتسلّم رئاسة الولايات المتحدة رسمياً في 20 كانون الثاني (يناير): 1) الأقليات ثمّ الأقليات ثمّ الأقليات، مع خلل أو شبه شلل في رسم خطط أمريكية ملموسة تجاه «قسد» خصوصاً، وملفّ الكرد شرق الفرات عموماً؛ و2) أنّ هذه سلطات «إرهابية»، سليلة «القاعدة»، «متشددة»، و«إسلامية» أوّلاً وأخيراً. والسذّج وحدهم يمكن أن يقبلوا بهذا التصريف من الإدارات الأمريكية كافة، وإدارة ترامب على نحو محدد؛ فالسجلّ الأمريكي في التعامل مع الحاكم العربي، عادلاً إصلاحياً كان أم مستبداً طاغياً، حافل وطافح وحمّال عجائب.

تاريخ تسليم لوائح الشروط وتسلّمها بين الإدارات الأمريكية ونظام «الحركة التصحيحية»، الأسد الأب مثل وريثه الابن، لا يبدأ من 28 زيارة مكوكية لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في سنة 1973؛ ولا ينتهي بعد تجارب مع 9 رؤساء أمريكيين، ومسؤولين كبار أمثال جيمس بيكر وكولن باول وجون كيري. زيارات باول، وزير خارجية جورج بوش الأب، صيف 2002، لم ترسم خرائط العلاقة في ضوء الاجتياح الأمريكي للعراق، لأنها كانت قد ارتسمت أصلاً مع مشاركة الأسد الأب في حشد «درع الصحراء»، فحسب؛ بل دشنت أيضاً عهد الدهشة إزاء تلهّف النظام السوري على الحوار مع دولة الاحتلال، الأمر الذي أصاب رجالاً أمثال عضو الكونغرس الأمريكي توم لانتوس، ورجب طيب أردوغان و… أرييل شارون!

دليل الحائر يمكن أن يهتدي، أيضاً، بإفادة أندرو إكسوم، نائب المساعد الأسبق في وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط خلال رئاسة باراك أوباما الثانية، أمام لجنة فرعية في الكونغرس تبحث السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط؛ والتي تناولت مفاوضات أوباما مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول طرائق إنقاذ نظام بشار الأسد من سقوط وشيك، صيف 2015. وإذْ يوضح إكسوم أنه كان طرفاً في سلسلة مباحثات مستفيضة مع ضباط جيش واستخبارات روس، بدأت في صيف 2015 واستغرقت العام 2016، حول مصير الأسد؛ يستخلص أنّ إنقاذ نظام الأخير، وشخصه استطراداً، كان هاجساً مشتركاً لدى واشنطن وموسكو وطهران، بالتكافل والتضامن.

تلك المبادلات الأمريكية مع النظام السوري ندر أنها تطرقت إلى «أقليات» أو «مكوّنات»، أو أشارت إلى إرهاب دولة مثلاً، ومجازر في عشرات المواقع مثل حماة وتدمر وجسر الشغور والحولة وداريا والغوطة ونهر قويق وبانياس وعدرا. وبالتالي فإنّ المجازر وجرائم الحرب التي وقعت في الساحل السوري ليست اليوم أكثر من ذريعة لدى بعض رجالات الإدارة الأمريكية، وعلى رأسهم وزير الخارجية ماركو روبيو، لإرجاء مقاربة متكاملة إزاء المتغيرات السورية العاصفة. وهذه حال تنتظر التفات ترامب شخصياً، الغارق حتى أذنيه في سلسلة من أزمات الرسوم الجمركية والعلاقة مع أوروبا والحلف الأطلسي وإغلاق ملفات حرب روسيا في أوكرانيا؛ كي لا تُنسى حماقة «ريفييرا غزّة»…

وما دام انضمام السلطات الحاكمة اليوم في سوريا إلى اتفاقيات أبراهام التطبيعية ليس ضمن لائحة الشروط، فهذا يعني أنّ إرجاء اعتماد المقاربة سوف ينتظر إنضاج المزيد من شروط تخديم المصالح الأمريكية على أصعدة محلية سورية وإقليمية عربية ودولية أوروبية؛ ضمن سياقات قديم يتقادم، ويُبقي دليل الحائر مفتوحاً على أسئلة معلقة وموازين قلقة.

وسوم: العدد 1122