الواقع والمبشرات

فكرٌ وثورة -2

د. أحمد سعيد حوى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين

تكلمنا في اللقاء السابق عن حقيقة المعركة وأشرنا إلى جذور الصراع من خلال الأحاديث الواردة عن النبي (ص) , و نتابع حديثنا اليوم عن حقيقة المعركة و نريد أيضاً أن نشير إلى الواقع والمبشرات , أي لا نقف عند تشخيص وتوصيف الحالة التي ربما تنتهي بالبعض إلى اليأس و القنوط - لا سمح الله - بل نريد إخواننا أن نبعث الأمل ونحن أمة مبشرة و البشارات قائمة وقادمة إن شاء الله تعالى .

المراحل التي ذكرها النبي (ص) في الحديث الذي ذكرناه في اللقاء السابق - حديث حذيفة (ر) - يقابلها مراحل أخرى أكثر دقة أو تحديداً , وإن كان الحديث الذي ورد بها فيه مقال لبعض أهل العلم ولكن كما قلنا  إذا جاء الحديث وقد صدقه الواقع , وهناك أحاديث أخرى – بالمناسبة – تشهد له فهذا يؤكد صحته إن شاء الله تعالى , أقصد هنا الحديث المتداول المعروف عند كثير من أهل العلم وطلابه وهو أن  النبي (ص) أخبر عن المراحل التي تمر بها الأمة معطياً لكل مرحلة من هذه المراحل تسمية, وهذه التسمية تدل فعلاً على تشخيص أدق حيث قال :( تكون فيكم نبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء الله  أن يرفعها ) طبعاً بالمناسبة الحديث ورد بروايات مختلفة وصيغ مختلفة لكن هذه إحدى الروايات .

وبالفعل إخواننا ختمت النبوة بوفاة  النبي (ص) , قال : ثم تكون خلافة على منهاج النبوة – لاحظوا إخواننا  النبي (ص) يثني على هذه الخلافة – ويقصد هنا الخلافة الراشدة , ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها , قال : ثم تكون ملكاً عضوضاً - ويوجد رواية تقول : تكون ملكاً عاضاً -  فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها )).

ماذا أراد  النبي (ص) بقوله تكون ملكاً عاضاً أو ملكاً عضوضاً ومتى بدأ ذلك ؟

باختصار إخواننا حتى لا ندخل في اشكالات اصطلاحية من ناحية الملك العضوض , فالملك العضوض : يعني أن من وصل إليه أمسك به أو تشبث به وعض عليه , وهذا الذي حصل إخواننا وبدأ من مرحلة الخلافة الأموية , ولا يعني هذا أننا ننتقص من مقام معاوية (ر) , فذلك اجتهاد منه , لكن لا شك هي مرحلة تحول أو تغير أو لنقل حتى انحراف في المسار السياسي في الدولة أو شكل الدولة الاسلامية .

إذاً الخلافة الراشدة إخواننا كانت محل ثناء  النبي (ص) , ومعلوم تاريخياً أن هذه انتهت بتنازل الحسن (ر) لمعاوية (ر) , وسمي ذلك العام عام الجماعة حيث اجتمعت كلمة الأمة وعادت إليها اللحمة والوحدة وانتهى الاقتتال والفتنة بفضل الله تعالى وتحققت نبوءة  النبي (ص) عندما قال : إن ولدي هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وقد حصل بفضل الله تعالى .

ثم كان الملك العضوض أو الملك العاض , وقلنا إن هذا بدأ بالخلافة الأموية وهو اجتهاد من معاوية (ر) يخطئ أو يصيب فهذا محل للدراسة أو النظر , نعم , قد يكون أخطأ بل يرجح أنه أخطأ بهذا الاجتهاد , لكن السؤال : كيف سكت الصحابة (ر) والتابعون ؟!

سكتوا لعلهم , من باب الموازنة , وهذا أمرٌ سنعود للتعليق عليه عندما نتكلم في فقه السياسة الشرعية أو في أصول ومبادئ نظام الحكم في الاسلام , بدأت مرحلة الملك العضوض إخواننا وطالت , الحديث يقول بعد ذلك : ( ثم تكون ملكاً جبرياً– إذاً بعد الملك العضوض تكون ملكاً جبرياً – فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها) .

إخواننا , إذا كان الملك العضوض شبيها بالملك الجبري , فلماذا يفرق  النبي (ص)  بين المرحلتين فيسمي هذه ملكاً عضوضاً ويسمي هذه ملكاً جبرياً ؟!

إخواننا هذه أيضاً سر آخر , هذا علم آخر من أعلام نبوة محمد (ص) , نعم هناك فارق جوهري كبير بين مرحلة الملك العضوض وبين مرحلة الملك الجبري كما سنعلم.

 متى بدأ الملك الجبري ؟ إخواننا نحن نرجح وبالنظر إلى حديث حذيفة السابق والأحاديث الأخرى التي ذكرناها في اللقاء السابق أن مرحلة الملك الجبري بدأت في هذه الأمة بعد اسقاط الخلافة ولم تبدأ قبل كما يدعي البعض , وهذا اجتهاد , ولكن هذه أدلتنا وهذه وجهة نظرنا نبينها الآن , إخواننا صحيح أن الملك العضوض يصدق على مدة الخلافة الأموية في الجملة , ولكن لا يمنع أنه جاء في ثناياها مثل خلافة عمر بن عبد العزيز (ر) وقد عده بعض العلماء من الخلفاء الراشدين , لكن في الجملة هي ملك عضوض أيضاً , كما يشمل الملك العضوض إخواننا أو يصدق على مدة الخلافة العباسية في مجملها ويصدق أيضاً على مدة الخلافة العثمانية في مجملها , لا يمنع أن تكون وجدت نقاط مضيئة أو بارزة في تاريخ الأمة في أيام العز بن عبد السلام وأيام صلاح الدين الأيوبي وغير لك , لكن في الجملة هي مرحلة ملك عضوض , ما الفارق بينها وبين مرحلة الملك الجبري التي جاءت بعد ذلك ؟

الفارق الجوهري وهو فارق كبير ومعتبر , أنه يا أخوة حتى في ظل الملك العضوض كانت مرجعية الأمة هي الاسلام , كانت مرجعية الدولة وكانت مرجعية الخلافة الاسلامية هي الاسلام , كانت هذه المرجعية مستمدة من القرآن والسنة واجتهادات الفقهاء الراسخين في العلم , نعم , وجد في تاريخ الأمة حكام وأمراء مستبدون لكن حتى هؤلاء لم يخرجوا عن مرجعية القرآن والسنة , عن مرجعية الاسلام , فكان الاسلام هو المرجعية وهو دين هذه الأمة , وهذا هو الفارق بين مرحلة الملك العضوض وبين مرحلة الملك الجبري .

ومن هنا نقول يا أخوة هذه المرحلة التي نعيش هي المرحلة التي أخبر عنها  النبي (ص) في حديث حذيفة (ر) : دعاة على أبواب جهنم  من أجابه إليها قذفوه فيها , إذاً يا أخوة هي أنظمة فرضت على الأمة بقوة البسطار العسكري ثم فرض عليها البعد عن الدين وفرض عليها المنكرات والفواحش والفجور, بل وحتى الكفر والشرك قنن في هذه الأمة , بل فرضت أنظمة علمانية على بعض بلاد المسلمين تحت سطوة هذه القوى تحت سطوة الملك الجبري , أين هذا أيها الأخوة من مرحلة الملك العضوض التي كان الاسلام حاكماً فيها لهذه الأمة , التي كان فيها الاسلام مرجعاً لهذه الأمة , هذا كله يا اخواننا تشخيص للواقع الذي نعيش , إذاً أقصي الدين من حياة الأمة , خضعت الأمة للملك الجبري وتحكم بهذه الأمة دعاة على أبوب جهنم وهم وكلاء للمستعمرين الذين احضروا جيوشهم وأساطيلهم وجاءوا بهذه الأنظمة لتقوم بأدوار عديدة نيابة عنهم , منها حماية هذا الكيان الغاصب لفلسطين ومنها اقصاء الدين من حياة الأمة ومنها افقار هذه الشعوب وإذلالها , أيها الأخوة بلادنا بلاد خيرات أصبحت منهكة مثقلة بمئات المليارات , لماذا ؟ إلا لتأخيرها عن الركب , إذاً لإفقار الشعوب وإذلالها وتفريق كلمتها وتمزيق بلاد المسلمين والحيلولة دون هذه الشعوب ودون تقدمها ونهضتها , هذا واقع يا أخوة , لكن لا نيأس , أملنا بالله تعالى وتعلقنا بالله تعالى والبشارة جاءت في الحديث ذاته , يقول  النبي (ص) بعد أن أخبر عن الملك الجبري الذي تعيشه الأمة الآن : (ثم تعود خلافة على منهاج النبوة ) طبعاً لا نشك في هذا , لكن (ثم ) في لغة العرب هي للتراخي وبالتالي قد يمر زمن حتى تتمكن الأمة من إعادة هذه الخلافة , ونحن لا نشك في ذلك , لا نشك أنها ستعود لأن  النبي (ص) بشر بها , لكن هي لن تعود دون أن يقوم عاملون يعملون لإعادتها , من هنا نقول إن على الجماعات الاسلامية أن توحد جهودها لإعادة تحكيم الاسلام  لإعادة إقامة دولة الاسلام وللسعي بدولة الاسلام إلى إعادة الخلافة الاسلامية في الأرض .

السؤال الذي يطرح هنا : أن  النبي (ص) قال المرحلة الثانية بعد مرحلة النبوة ( ثم تكون خلافة على منهاج النبوة – وهنا يقول ثم تعود خلافة على منهاج النبوة ) هنا نقول قد يطول الأمر, وبالفعل قد طال حوالي تسعين سنة منذ أن اسقطت الخلافة العثمانية وإلى الآن لم يستطع المسلمون أن يعيدوا هذه الخلافة إلى حياة الأمة وواقع الأمة , السؤال : كيف أقام الصحابة (ر) تلك الخلافة التي كانت على منهاج النبوة بعد وفاة رسول الله (ص) بيومين أو أقل من يومين حتى أبرمت الخلافة لأبي بكر (ر) ؟ الجواب عن ذلك , أن الأمور كانت مهيأة لإقامة الخلافة الراشدة مباشرةً بعد وفاة  النبي (ص), كانت الأمة مجتمعة , أهل العلم وأهل الشورى وأهل الحل والعقد مجتمعون وموجودون وهم أهل علم وفضل واجتهاد , الرقعة الجغرافية لبلاد المسلمين واحدة موحدة لم يكن هناك تمزق أو تفريق في هذه الرقعة , إذاً إخواننا كانت الأسباب مهيأة لقيام خلافة مباشرةً بعد وفاة رسول الله (ص) , لكن إذا نظرنا في واقع حالنا اليوم فإن الأمة بلا شك قد وصلت إلى قعر المنحنى , أي كانت مرحلة النبوة وهي مرحلة الكمال ثم مرحلة الخلافة على منهاج النبوة وهي الصورة المثالية , ولا نقصد بالمثالية هنا الخيالية ولكن الصورة الأفضل والأكمل التي سارت على منهاج النبوة , ثم بدأ الانحدار : ملك عضوض ثم ملك جبري , إذاً وصلت الأمة فعلاً إلى قعر المنحنى والآن تتطلع الأمة إلى قمة الجبل الشاهق إلى عودة الخلافة الراشدة , إذاً الأمر يحتاج يا أخوة إلى عمل واجتهاد وتضافر جهود , ثم نقول ليس لأحد من المسلمين ليس لجماعة من الجماعات الاسلامية ليس لتيار من التيارات الاسلامية أن يدعي أنه وحده سيعيد الخلافة الاسلامية , يا إخوة العمل للإسلام ولدولة الاسلام وإعادة الخلافة الاسلامية يحتاج إلى تضافر جهود جميع الجماعات الاسلامية , كل الجماعات الاسلامية التي تتفق على أصول أهل السنة والجماعة هي على خير, لكن لن يستطيع فريق من هؤلاء أن ينهض بهم الأمة وعبء هذه الرسالة , إذاً لا بد من تعاون الجميع والأمر يحتاج إلى جهود وربما الأمر يحتاج إلى جهود مضنية وطويلة حتى نصل بالأمة إلى إعادة تحكيم شرع الله تعالى , حتى نصل إلى إقامة دولة الإسلام , وحتى نصل إلى إقامة وإعادة الخلافة الإسلامية الراشدة على منهاج النبوة إن شاء الله , لا نشك في ذلك ونحن مبشرون يا أخوة , نعم , فرضت علينا معركة أريد منها تأخير هذه الأمة , تمزيق هذه الأمة وبقاء هذا الكيان الغاصب المتسلط في فلسطين ببقاء المشروع الصهيوني الصليبي العالمي الذي يتآمر على هذه الأمة , لكن نقول يا أخوة إن الله تعالى بشرنا بزوال دولة إسرائيل بشرنا بذلك في القرآن في مطلع سورة الاسراء واقرأوا بشارات  النبي (ص) ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك – وفي رواية : حتى ينزل عيس ابن مريم ) .

يا أخوة جاءت البشارات أيضاً بنزول الخلافة إلى الأرض المقدسة , وهو يبشر الآن بعودة الخلافة , هل يمكن أن تكون خلافة مع وجود هذا الكيان الغاصب , إذاً يا إخوة البشارات قائمة وقادمة بإذن الله تعالى بزوال هذا الكيان الغاصب , والأمة الآن تدفع الثمن , الأمة الآن تدفع جزءً من مهر تحرير فلسطين فإذا كان الله تعالى قد بشرنا بزوال دولة اسرائيل فهي بشارة ضمناً بزوال هذه الأنظمة التي وضعت وزرعت لحماية اسرائيل والله أعلم .

أكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة ولنا لقاءات قادمة نتابع فيها إن شاء الله .