الطبعةَ الشامية من الإسلام ..
زهير سالم*
هل أستطيع أن أطرح هذا العنوان دون أن أتوقع نكيرا من أطياف متعددة كل منها يرى فيما أقول منكرا من القول وزورا . وحين أطرح عنوان الطبعة الشامية من الإسلام فإنني سأعترف بكل الموضوعية بالطبعة المصرية والطبعية العراقية والطبعة المغربية ومن باب أولى الطبعة التركية والقوقازية و الهندية الملاوية ...
لن يكون هذا من باب ( الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) ولن يعني هذا أنني أتحدث عن إسلامات متباينة مقابل ( الإسلام ) دين الله الواحد الكامل في نصوصه المقدسة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها . الإسلام الدين الواحد في عقائده وشعائره وشرائعه له تجليات مختلفة حتى في مناهج العلماء وفهومهم . منذ العصور الأولى كنا نسمع عبارات من مثل ( فقه أهل الحجاز ) و ( فقه أهل العراق ) . وقراءة أهل العراق وقراءة أهل الشام . ومنذ القرن الثاني للإسلام وتابعنا الإمام الشافعي في انتقاله من الحجاز إلى العراق ثم إلى مصر يجدد فقها جديدا يليق بمصر وأهلها . ولم يكن كل هذا بعيدا عن قواعد الفقه والفقهاء الذين قرروا أن الفتوى تقدر زمانا ومكانا . وبحيث يكون للمكان بصمته عليها كما يكون للزمان هذا البعد في مستجداته . وذهبت قواعد الفقهاء أكثر في هذا الشأن حين اعتُبر ( العرف ) وهو زماني مكاني مصدرا من مصادر التشريع ، كما اعتبر الإمام مالك ما كان عليه أهل المدينة المنورة مصدرا من مصادر مذهبه ..
في كتب الفتوح أن سيدنا عمر عندما مرّ على معاوية رضي الله عنهما في الشام ورأى ما هو فيه من أبهة الملك ، بادر إلى إنكار ذلك عليه . فلفت نظره سيدنا معاوية إلى مفارقة المكان بين المدينة المنورة وبين دمشق . مفارقة المكان والسكان فأمسك سيدنا عمر وقال : لا آمرك ولا أنهاك ..
اليوم وقد اختصرت وسائل الانتقال والاتصال المسافات . هل لهذه الوسائط أن تلغي هذه الخصوصيات ( البنيوية ) . خصوصيات بنيوية ليست خارجية فقط تتعلق بمناخ وبيئة بل هي في بعضها أنثربولوجية تتعلق بمزاج عام يغلب على بعض الشعوب والأقوام . ألم يعترف رسول الله بحب الأنصار للغناء ، أولم يكرس ذلك الفقهاء فيما بعد حين قالوا : رأيه في السماع حجازي وفي الشراب عراقي . إشارة إلى أثرة في مزاج أهل العراق وأهل الحجاز ..
لن يستطيع راكب أي طائرة أن يحمل في رأسه أو على كاهله تصورا انتزعه من كتاب ، أو قرأه على شيخ ، أو اقتبسه من بيئة للإسلام الدين الحق الواحد الموحد ليفرضه على مجتمع آخر وعلى بيئة آخر ...
لقد طور أهل الشام خلال أربعة عشر قرنا هي تاريخ الإسلام على أرض الشام فقههم ورؤيتهم وقواعد عيشهم وأنماط سلوكهم وطبيعة علاقاتهم مع القريب والجار والموافق والمخالف . كانت لهم طرائق أداء الأذان على مآذنهم . والخطابة على منابرهم . وكانت لهم طريقتهم في المزج بين ساعات يومهم ( ساعة للرب وساعة للقلب ) كما تصوروها . وكانت لهم أنماط في بناء أسرتهم وفي علاقاتهم بنسائهم وببناتهم . وكان أهل الشام في سوادهم العام ممن ينطبق عليهم قول ربهم ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ...) .
وبين هؤلاء وأولئك عاش أتباع أديان ومذاهب ومزيج رائع من الحضارات والشعوب . لا يثرّب بعض على بعض ولا يكاد يبغي على بعض .
طبعة الإسلام الشامية طبعة أصيلة مكينة صالحة مصلحة قابلة . لها ظلالها ولها أفياؤها وهي لأن تعطي أولى من أن تأخذ ، وهي لأن تُحتذى أولى من أن تّستتبَع . نقول للذين يجدون على أرض الشام من أمر الإسلام أمرا لم يعهدوه أولى بكم أن تقتبسوه ....
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية