لنستمعْ لآهات طلابنا
بن العربي غرابي، ميسور، المملكة المغربية
تسألني هند، تلميذتي الصغيرة في السنة الثالثة من السلك الإعدادي وعلى قدر لافت من الذكاء والاستقامة، وعلى وجهها الصغير عبارات التبرم والألم والشكوى وتقول: أستاذ، ما فائدة أن أضبط الكلمات بالشكل التام كما تأمرنا بإلحاح واستمرار؟ ما الفرق بين أن أقول: حل الموسمْ الدراسي الجديدْ وبين أن أقول: حل الموسمُ الدراسيُّ الجديدُ؟ لماذا أرهق الذهن، وأنا أعبر شفهيا أو كتابيا، في قواعد ذهنية لغوية فارغة؟ لماذا علي التقيد بقاعدة الفاعل ونائبه والمفاعيل والعدد والعطف والبدل والحذف والتقديم والتأخير والاستثناء وغيرها؟ لماذا وأنا مُقْدمة على رهانات التعبير عن مشاعري وأفكاري ومبادئي وقناعاتي أن أراعي قاعدة جمع المؤنث السالم الذي ينصب على غير العادة بالكسرة النائبة عن الفتحة، أليس من العنت أن أشغل نفسي بالقاعدة لأقول: قرأت المخطوطاتِ النفيسةَ، أليس انشغالي بالقاعدة إهدارا لوظيفة التواصل والتعبير، الوظيفة الأسمى لكل اللغات؟ لماذا ترهقنا لغة الضاد بقاعدة التصغير، لماذا علي أن أقول كوَيْتِب وأنا أحسن أن أقول: كاتب صغير؟
أسئلة حارقة تتجاوز عمر هند بكثير، تساؤلات تؤرق تلاميذنا وتلميذاتنا يحملون أثقالها ولا يستطيعون التعبير عنها لأن قواهم الفكرية لا تسعفهم وتفتقر إلى التجريد الذي هو عصب السؤال الفلسفي، ولا يستطيعون الجهر بها لأن ذلك يجر عليهم الكثير من مضايقات الكبار وصلفهم. وأقف أمام هند عاجزا عن رد أسئلتها أو الرد عليها لأنها تملك حقيقةً الكثير من المصداقية والحُجِّية، ألا نعجز نحن – الكبارَ – عجزا فادحا أحيانا عن احترام قاعدة العدد في علاقته مع المعدود في شروحاتنا الشفهية وكتاباتنا أيضا؟ أ لا نصاب بالهزيمة أمام قاعدة الاستثناء عند التعبير وإن كنا نحفظ القاعدة عن ظهر قلب؟ أ لا نندهش أمام اختلافات النحاة في الكثير من الأمور اللغوية أثناء تفسير القرآن الكريم والشعر العربي؟ ألا يلعن طلابنا الأخفش الكبير والصغير وسيبويه والزمخشري والخليل لأنهم لم يتفقوا على الكثير من القواعد وعجزوا عن تبسيط اللغة الواصفة التي تقنن لغة التواصل والأدب؟
قلت لهند وأنا أعتقد أنني أفحمها وأسكت أسئلتها: كل اللغات لها قواعدها وإشكالاتها ، وكذلك الأمر في اللغات الحية العالمية كالفرنسية والإنجليزية، لكنني أعرف أنني كنت أحاول تهدئة بركان ثائر بإعادة الحمم إليه بعد تجميدها، وأنا أعلم علم اليقين أن لغتنا شديدة التعقيد من حيث مستوياتها المعجمية والصرفية والنحوية التركيبية، ألا نقف مشدوهين أمام شرح كلمة " تملى " مثلا فنقول: رأى، أنعم النظر، أمعن النظر، لاحظ، شاهد، أبصر، راقب، تابع، تأمل...بينما الفعل الشائع، وربما الوحيد، الذي يستعمله الإنجليز هو الفعل look ؟ ألا يتباهى الكثير من الباحثين العرب بثراء المعجم العربي بحيث يقولون إن أسماء الصحراء والخيل والناقة والسيف والرمح كثيرة لدرجة أنه يستحيل حصرها؟ ألا نتذكر جميعا قول أبي العلاء المعري: الكلب فينا من لا يعرف للكلب سبعين اسما؟
لا ندعي تماما أن الأفعال التي عرضناها في معنى الفعل رأى مترادفة ، فالترادف مسألة لغوية غاية في التعقيد ويختلف الباحثون في إثباته وإلغائه، ولكن الذي يقلقنا حقا هو التبعات البيداغوجية والديداكتيكية، إذ كيف يمكن إقناع تلميذنا بأن ثراء لغتنا هو لها ولا عليها؟ وكيف نبسط العربية لمتلقيها فتصبح وظيفية تؤدي دور التواصل بسلاسة دون إهدار رأسمالها الجمالي المتمثل في البيان والفصاحة.
كل محاولاتي في إقناع هند وإخماد سَورتها باءت بالفشل: قلت لها إن العربية لغة مقدسة حفظت القرآن الكريم وتعهد هو بحفظها، وأنها لغة طال عمرها فبلغ حوالي ألفي سنة، وهذا يجعل جذورها راسخة ثابتة لاتتضعضع أمام عوادي الزمن، وقلت لها إن السبب في تخلفها ليس لغتنا تماما بل السبب في الناطقين بها حيث شحت إبداعاتهم وإسهاماتهم في الراهن الدولي المتسارع والمتجدد باستمرار، لكن هندا لمحت إلى إمكانية اعتبار قداستها عاملا سلبيا أكثر منه إيجابيا، وعمرها الطويل قد يقودها إلى الموت كمصير حتمي للشيخوخة. وكل احتجاجاتها تشير بمرارة إلى أن العربية لغة التعقيد والتراث فقط ولا تستطيع بأي حال أن تصبح لغة العلم والأبحاث والفلسفة.