المخطط الأسود

مؤمن بسيسو

لا يمكن للعقل السياسي العربي السوي أن يجتزئ ما يجري في مصر اليوم عن سياقات الحدث الأخرى في المنطقة والإقليم، وأن يتعاطى مع الانقلاب المصري بسذاجة مفرطة بعيدا عن حلقات الاستهداف التي تحث الخطى نحو دوائر جغرافية أخرى في إطار مخطط مرسوم، تتوزع أدواره بشكل دقيق ونسق محدد لتغيير مجرى التاريخ، وإعادة صياغة الواقع السياسي في المنطقة ككل.

تفاصيل المخطط

المعطيات الدقيقة التي تسربت عن مصادر فلسطينية ومصرية وعربية عليمة تشير إلى تفاصيل مخطط أسود حُبكت حلقاته وأدواره ومراحله بعناية فائقة قبل عدة أشهر، وتم إنضاجه على نار هادئة والشروع في تنفيذه بدقة متناهية وتنسيق كامل على أعلى المستويات السياسية والعسكرية والأمنية بين الدول والأطراف المعنية.

أطراف هذا المخطط تتمثل في الولايات المتحدة التي تشكل رأس وقيادة المخطط، وإسرائيل، وقيادة السلطة الفلسطينية، وقيادة الجيش المصري وبعض القيادات السياسية التابعة لنظام مبارك والدولة العميقة، والنظام السعودي، والنظام الإماراتي، والنظام الأردني، وبعض رجالات السياسة والأمن في دول الإقليم، خصوصا تونس وتركيا.

لكن ما يميز هذا المخطط أن قيادته العليا (الإدارة الأميركية) لا تتصدر المشهد وتعمل في الواجهة الخلفية، وتحاول الظهور بمواقف رمادية حسب مقتضيات المصلحة والظروف، وتدير المعركة عبر إشرافها المباشر على الأدوات الإقليمية التي تشكل الأضلاع الأساسية للمخطط المذكور.

وتتمثل أهداف المخطط في إفشال ثورات الربيع العربي عبر إجهاض الثورتين المصرية والتونسية، وتقويض تجربة الإخوان المسلمين في الحكم، وتحجيم الدورين القطري والتركي اللذين شكلا رافدا أساسيا لدعم وتأجيج الثورات العربية، وإسقاط حكم حماس في غزة الذي يشكل بؤرة تحريض وإزعاج كبرى لإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأنظمة العربية الدائرة في الفلك الأميركي.

ومع نجاح المخطط إلى حد ما في مرحلته الأولى ضد الثورة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين، انتقل المخططون إلى محاولة تطبيق بقية عناصر وبنود المخطط الأخرى بشكل متزامن، إذ تعمل بعض الأطراف على الساحة التونسية على محاولة إسقاط الحكومة الائتلافية الحالية، والمجلس التأسيسي التونسي المنتخب، تحت غطاء تشكيل حكومة تكنوقراط غير حزبية، دون أن تعير اهتماما للمحاولات الجادة التي يبذلها بعض الساسة التونسيين لنزع الفتيل عبر حلول سياسية منطقية تقبل بها الأطراف والمكونات التونسية المختلفة.

وفي الوقت نفسه أغلق النظام المصري الجديد معبر رفح البري، ويوشك على الانتهاء من هدم الأنفاق الحدودية مع قطاع غزة، توطئة للمرحلة التالية التي تشاركه فيها السلطة الفلسطينية عبر تفعيل أدوات التحريض المختلفة ووقف الرواتب والمخصصات المالية عن أهالي القطاع، وتهيئة الأجواء نحو اندلاع حركة احتجاجات شعبية ضد حكم حماس تنتهي بإسقاطه كما يأمل المخططون.

بموازاة ذلك، لم تتوقف الضغوط الأميركية التي بُذلت لتحجيم الموقفين القطري والتركي طيلة الأشهر الأخيرة وخلال معركة الانقلاب على مرسي وآثارها الدموية، وهو ما يدعو لتوقّع استدعاء المزيد منها في المرحلة القادمة حسب المخطط المرسوم.

إجهاض الثورة المصرية

شكلت الثورة المصرية نقطة البداية وحجر الزاوية في تنفيذ المخطط المرسوم.

ولأن مصر هي قلب الأمة ونبضها الأصيل، ونظرا لطبيعة الدور الريادي وحجم الأثر السياسي والمعنوي الذي تتركه مصر على الأمة جمعاء، ولأن مصر تعد منبت جماعة الإخوان المسلمين وثقلها الأساس، فقد وضع المخطط الثورة المصرية على رأس أجندة الفعل والاستهداف، وأفرد لها من التحضير المسبق والعمل الدؤوب ما يضمن سحقها والقضاء عليها بأقل الخسائر الممكنة.

واستند المخطط في إحدى أهم زواياه على أن إجهاض الثورة المصرية سوف يترك آثارا بالغة السلبية على مجمل الربيع العربي في المنطقة، وأن إسقاط حكم الإخوان كفيل بإحباط تقدم تجارب الإسلاميين في مختلف الدول العربية وهزّ مشروعهم ودفعهم نحو التراجع والانكفاء.

لم تكن إمكانية الانقلاب على الثورة المصرية سهلة ميسورة، إذ إن نجاح مخطط الانقلاب عليها يتطلب توفير جزء لا بأس به من الأسباب الموضوعية لعزل الرئيس الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان، وهو ما استدعى تجنيد كل قوى وطاقات الدولة العميقة المتحفزة من جهة، وتحشيد الجماعات الحزبية المعارضة لحكم الإخوان من جهة أخرى، وذلك في إطار جهد سياسي وإعلامي توسل التعبئة الشعبية قدر الإمكان، انتظارا للحظة الحسم التي اختير 30 يونيو/حزيران الماضي تاريخا لها تحت غطاء حركة 'تمرد' التي تم صناعتها بواسطة الجيش.

وهكذا، تكاثف الجهد والإعداد ضمن إطار المخطط المذكور بقيادة قائد الجيش والقيادات العسكرية الأساسية، والعديد من الساسة التابعين لنظام مبارك والدولة العميقة، وبرعاية مباشرة من الإدارة الأميركية والسعودية والإماراتية، ومتابعة حثيثة من إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن، إلى أن دقت ساعة الصفر، وكان ما كان.

ولأن المذابح الكبرى والجرائم البشعة التي اقترفها السيسي وزمرته الانقلابية ذات غطاء إقليمي ودولي معلوم ضمن إطار المخطط المرسوم، جاءت ردود الفعل على ما جرى محدودة القوة والأثر، وغير ذات قيمة عملية في موازين السياسة الراهنة، ودارت معظمها في فلك النفاق السياسي ليس إلا.

إجهاض الثورة التونسية

رغم ابتعاد تونس عن مركز الثقل السياسي العربي فإن إجهاض الربيع العربي لا يكتمل إلا بإنهاء ثورتها التي شكلت فاتحة الربيع العربي وثوراته العارمة، وهذا ما جعل استهداف الثورة التونسية بندا أساسيا على أجندة المخطط المذكور.

واللافت للنظر أن الوضع التونسي شهد استقرارا لا بأس به على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في ظل 'الترويكا' الحاكمة هناك، وأن إعطاء الفرصة لبرنامج التوافق الوطني الذي يتولى إدارة الحكومة والبرلمان في تونس من شأنه أن يقدم نموذجا ديمقراطيا رفيعا لتجربة سياسية راشدة، ويشكل مدخلا حقيقيا لحل المشكلات التي يعاني منها الواقع التونسي.

لكن ضرورات الانقلاب على الربيع العربي في إطار المخطط سيئ الذكر أملت على جهات نافذة داخل تونس التحرك لتخريب آليات التحول الديمقراطي، وضمان إفساد أجواء التفاهم والاستقرار الواعدة ضمن المكونات السياسية الرئيسية هناك، وذلك عبر تحريض قطاعات نقابية وحزبية محددة لاستنساخ التجربة المصرية الأخيرة في الانقلاب على نظام ما بعد الثورة، وإقصاء الإسلاميين (حركة النهضة) من صدارة المشهد السياسي.

ومن هنا لم يكن مستغربا أن تنطلق حملة 'تمرد' جديدة في تونس، وأن تطلق بعض القوى الحزبية والنقابية التونسية العنان لمواقفها الرعناء التي لا تعنى بالجهد الوطني التونسي الذي يستهدف بلورة مقاربة سياسية مقبولة على كافة أطياف المجتمع السياسي التونسي، ولا ترفع سوى شعار إسقاط النظام السياسي الجديد المنتخب، حكومة وبرلمانا.

ومع ذلك، ينبغي الإقرار بأن حكمة حركة النهضة ورئيسها الشيخ راشد الغنوشي، ومرونتها الواضحة في التعامل مع مستجدات الواقع السياسي داخل تونس، تشكل تهديدا للمخطط الانقلابي المرسوم، وقد تعمل على إبطاله، ولو جزئيا، حال نجاحها في إبقاء البرلمان المنتخب دون حلّ، وقصر التغيير على الحكومة وبعض مستوياتها الإدارية فحسب.

تحجيم قطر وتركيا

تدرك الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة أن طيّ صفحة الربيع العربي لن يتم إلا بتحجيم وتدجين الدورين القطري والتركي اللذين ينشطان بقوة في الدفاع عن حق الشعوب العربية في الحرية والعدالة والكرامة، ويلعبان دور المحرض على الانتفاض في وجه الظلم والقهر والاستبداد.

ورغم الضغوط الأميركية التي مورست على قيادة البلدين لحرف بوصلتهما عن دوائر الربيع العربي، فإنهما أبدتا عنادا صريحا في تحدي الموقف الأميركي بهذا الخصوص، وأثبتتا قدرة بيّنة على احتواء كافة أشكال الضغوط الممارسة حتى اليوم.

وتجلى الموقف القطري بوضوح في معارضة الانقلاب العسكري في مصر ونتائجه الدموية، وعدم التدخل في مسار التغطيات المهنية القوية لقناة الجزيرة فيما يخص الشأن المصري بشكل خاص، وشؤون الربيع العربي وحرية الشعوب بشكل عام.

أما الوضع التركي فقد شابه الكثير من التعقيد إثر محاولات الانقلاب السياسي والميداني التي وجدت ترجماتها العملية في ميدان 'تقسيم' في الأسابيع الأخيرة، والتي تم إنتاجها إثر فشل الإدارة الأميركية في إعادة العلاقات التركية-الإسرائيلية إلى سكّتها القديمة بعد إفلات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أوردوغان من فخّ الاعتذار الإسرائيلي على حادث سفينة 'مرمرة' الذي استهدف احتواء الدور التركي 'المشاغب' على المستوى الإقليمي.

وهكذا، غدا التحريض الخارجي الخفيّ جزءا من الطبقة السياسية والحزبية التركية للخروج على 'أردوغان' بهدف الإطاحة به وإعادة تركيا إلى بيت الطاعة الأميركي من جديد، أو إشغالها في همومها ومشاكلها الداخلية بعيدا عن تحدي السياسة الأميركية على أقل تقدير.

بل إن الموقف التركي بدا أكثر حدة من نظيره القطري حين رفض 'أردوغان' التعامل مع حكومة وممثلي الانقلابيين في مصر، وأطلق حملة دبلوماسية لنصرة مرسي والشرعية الدستورية في مصر، وذهب أبعد من ذلك حين غرد تماما خارج سرب النظام الإقليمي والدولي عبر دعوته إلى إنشاء منظمة بديلة عن منظمة الأمم المتحدة قبل أيام.

إسقاط حكم حماس

في تفاصيل المخطط الذي بدأ تنفيذه لإسقاط حكومة حماس في غزة كامتداد طبيعي لجماعة الإخوان، يلعب النظام المصري الجديد دور الأسد، فيما تلعب السلطة الفلسطينية في رام الله دورا رئيسيا، بالإضافة إلى بقية الأدوار المسندة إلى الأطراف الأخرى بما تكتمل به صورة مشهد المخطط وحلقاته المرسومة.

الدور الأهم الذي يضطلع به الجانب المصري يكمن في هدم الأنفاق بشكل تام، وإغلاق معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة، مما يزج بالقطاع في أتون أزمة اقتصادية خانقة تبلغ حد الكارثة الإنسانية بفعل توقف توريد المواد الغذائية والمستلزمات الأساسية ومشتقات الوقود عبر الأنفاق التي تباع في الأسواق الغزية بأسعار رخيصة.

بموازاة ذلك، تلجأ السلطة الفلسطينية في رام الله إلى وقف الموازنة الشهرية التي تخصصها شهريا لقطاع غزة بما فيها رواتب الموظفين، ولا يتبقى من منفذ سوى معبر كرم أبو سالم الذي يتحكم به الجانب الإسرائيلي، والذي يتم من خلاله إدخاله البضائع الإسرائيلية بشكل محدود وباهظ الثمن.

ذلك كله، يعني -عمليا- الدفع نحو شلل وتعطيل الحياة بشكل كامل في القطاع، خصوصا في ظل الأزمة المالية التي تعاني منها حكومة حماس، وقد تترك آثارها الواضحة في مختلف المجالات، مما يؤسس -حسب المخطط- لأرضية موضوعية نحو خلق تذمر شعبي واسع داخل القطاع.

ويتمحور المخطط بشكل دقيق حول مجموعة من الخطوات السياسية والإعلامية والميدانية يمكن تلخيص أهمها في التالي:

- اتهام حركة حماس باقتحام السجون المصرية أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وقيامها بتهريب قيادات من حماس والإخوان وعلى رأسهم الرئيس مرسي.

- الإعلان عن اعتقال عناصر تابعة لكتائب القسام متورطة في هجمات ضد الجيش المصري وقوات الأمن المصرية في سيناء، وتلفيق علاقة المعتقلين بالاشتباكات في كل من العريش، الشيخ زويد، ورفح الحدودية.

- اختباء قيادات من الإخوان المسلمين في قطاع غزة بعد هروبهم من مصر، ومنهم محمود عزت بهدف إدارة العمليات ضد الجيش المصري في سيناء.

- تصدير اعترافات مفبركة لعناصر من حماس في الإعلام حيث يتم التركيز على إبراز 'المخططات التخريبية' التي أعدتها كتائب القسام داخل الأراضي المصرية دعما لمرسي، واستغلال من اعتقلوا من سكان القطاع الذين جاؤوا لمصر من أجل العلاج أو الدراسة لهذا الغرض.

- إغلاق كل الأنفاق الحدودية خاصة أنفاق الوقود والبضائع بهدف خلق جو من التذمر والهيجان لدى الرأي العام في غزة، وخاصة أن الأنفاق تشكل شريان الحياة لأهالي القطاع.

- إغلاق معبر رفح بهدف التضييق على الناس تحقيقا للتذمر الشعبي المنشود.

- بث إشاعات سلبية بين الناس، والتركيز على أن القطاع سيكتوى بنار الأحداث في مصر، خاصة بعد سقوط الحركة الأم لحركة حماس 'جماعة الإخوان'.

- إطلاق حملة تمرد في غزة على غرار حملة تمرد المصرية، وتحديد موعد لنهاية حكم حماس.

- السماح بإقامة معسكرات تدريب لعناصر دحلان الموجودة في مصر، وعناصر أخرى سيتم جلبها من الساحات الأخرى وتسكينها في الساحة المصرية.

- تموضع عناصر دحلان في عدة نقاط تماس مع قطاع غزة (رفح، معبر كرم أبو سالم، معبر إيرز، شرق مدينة غزة، شرق مخيمات المنطقة الوسطى ودير البلح، وخان يونس) بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي.

- إسناد جوي بواسطة المروحيات من الجانب المصري.

- اجتياز القوات المصرية لحدود قطاع غزة بحجة ملاحقة 'العناصر الإرهابية' التي تقوم بعمليات تخريب في سيناء من خلال قوات خاصة.

خلاصة

أثبت مسار الأحداث أن السيناريو المرسوم لإنجاح المخطط الأسود لم يؤتِ أكله وفق ما يشتهي أهله، وأن مقاربته في النجاح تبقى جزئية، خصوصا في ظل العجز عن تحجيم الدورين القطري والتركي، والشكوك القوية حول إمكانية إجهاض الثورة التونسية، والعقبات الكبرى التي تواجه استمرار المخطط في مصر إثر دخول الأوضاع فيها على خط الانهيار الشامل.

وأيا يكن الأمر، فإن ما تمر به مصر والمنطقة العربية يعبر عن مخاض أليم ومرحلة انتقالية قاسية، إلا أن مآلاتها مبشرة، ونهاياتها تصب في صالح الأمة وشعوبها ومشروعها الإسلامي الأصيل.