هي تغار مني
د. ماهر أحمد السوسي
الأستاذ المشارك بكلية الشريعة والقانون
بالجامعة الإسلامية - عزة
لا تريد أن تفهم حقيقة أمرها، ولا تريد أن تفهم أن الأيام والشهور والسنين تسير بسرعة الضوء، تأبى أن تسلم بالأمر الواقع، وتكره أن تلتفت إلى الماضي، لاتحب أن تتذكر أنه قد مضى خمس وستون عاماً من عمرها، أعدى أعدائها هو الذي يسألها عن عمرها؛ بل إن هذا السؤال بالنسبة لها أشد وأقسى من سؤال الملكين في القبر …
هذه هي حماتي التي أوهمت نفسها بأنها أكثر شباباً، وأكثر حيوية وأكثر نضارة، وتحاول باستمرار أن توهم الآخرين بذلك، حتى وهي تتناول أقراص ضغط الدم، وتحاول أن تتحسس موضعاً في يدها خالٍ من وخزة إبرة، حتى تتناول إبرة الأنسلين علاجاً لمرض السكر …
نادتني صباحاً وهي تقول: لا أريد أن أراك مرة أخرى تلبسين هذا الثوب الذي كنت تلبسينه بالأمس حينما زارتنا جارتنا، إن هذا الثوب لا يليق بأمثالك، لماذا تحاولين دائماً ان تبدين وكأنك أصغر من سنك … هذا بالضبط ما قالته لي، وكأني قد جاوزت الخامسة والعشرين من عمري، ولكن الغريب في الأمر، أنها كانت تلبس نفس الثوب الذي نهتني عن لبسه، مما دفعني إلى الذهول والحيرة، جالت بخاطري ساعتها أفكار كثيرة، عن سبب منعها أياي من ليس هذه الملابس، وعن السبب الذي من أجله قالت ما قالت، وأن أدقق النظر، وأن أتدبر الأمر، ذهب إلى خزانتي، أخرجت ذلك الثوب منها، وأمسكت بعلاقته بكلتا يدي، ورفعته عالياً، تفحصته شبراً شبراً، لعلي أجد فيه ما يعيبه، لعله كان متسخاً، أو مهتراً… … ثم نظرت إليه وإلى وجهي في المرآة لعل لونه لا يتناسب مع لون بشرتي، ولكني تذكرت ساعتها أن لون بشرتي كلون بشرتها، وأن الثوب لا شيء فيه يعيبه.
جلست واضعة يديّ الاثنتين على خديّ، امعنت النظر، وقلبت الأمور، وردت إلى خاطري كثير من الأفكار التي تزاحمت مع بعضها البعض، بدأت أتذكر كيف كانت تنظر إلى وأنا عروس، وكيف كانت تطلب من زوجي ان يسهر عندها بالليل ويتركني وحيدة، وكييف أنها كانت تحرضه عليّ من أجل أن يمنعني من أن أتزين كما تتزين كل النساء، وأشياء كثيرة أخرى اجتمعت في مخيلتي على خلفية صورتها وهي تنظر إلى بحنق وغيظ كلما قال لي أحد من زوارنا أو معارفنا أمامها: ما أجمل ثيابك، وما أحلى زينتك.
وعندها فهمت أن الأمر ليس له إلا تفسير واحد، هو الغيرة، فهي تغير مني، هذا هو الواقع، وهذا هو السبب في كل ما أناله منها من إيذاء وتكدير لحياتي، وهذا هو السبب وراء تحريضها لزوجي عليّ. بالرغم من احترامي لها، وبالرغم من قيامي بعمل كل ما يرضيها، فأنا أحوال باستمرار أن أوفر لها كل أسباب الراحة، فهي أولاً وأخيراً أم زوجي، وهي من المفترض أنها في مقام أمي، والأهم من ذلك كله أنها امرأة قد أنهكها المرض رغم محاولتها لإخفاء ذلك، كل هذا كان دائماً يدفعني إلى الشفقة عليها والسهر على راحتها.
لكن تبقى هذه الغيرة التي تدفعها إلى إيذائي هي الهاجس الذي يؤرقني، وينغص عليّ حياتي، فماذا أفعل؟ سؤال لم أجد له جوابا"ً عندي.
وبعد.
فإن الغيرة هي امر واقع، وأن تغار النساء بعضهن من بعض هذا أمر سملم به أيضاً، لكن أن تغار الحماة من كنتها فهذا أمر رغم وجوده إلا أنه أمر نادر، وفيه ما فيه من الأذى.
وعلى ذلك فإنه يجب عليك أن تتفهمي أولاً هذه المسلمات التي تحدثنا عنها، وأن غيرة حماتك أمر واقع، وأن الغيرة هي شعور داخلي نفسي، وأن النفس الإنسانية من أعقد ما خلق الله تعالى، وأن السيطرة عليها، أو على ما يعتمل بداخلها من مشاعر وأحاسيس هو من أصعب ما يكون.
ومن هنا فإن ما يجب عليك عمله هو التكيّف مع هذا الوضع، وأن تلتمسي عذراً لهذه المرأة التي كلما نظرت خلفها وجدت أنها قد قطعت شوطاً كبيراً من عمرها، وأن المحطة الأخيرة قد اقتربت، فهذا أكثر ما يقلقها، لذا، فإنها كلما تظرت إليك تذكرت شبابها، وتذكرت أنها قد بلغت من عمرها ما بلغت، ولا متنفس لها من هذا الشعور المؤلم إلا أن تغار منك، فغيرتها هي مجرد انعكاس لشعورها هذا، حاولي ان تساعدي هذه المرأة بالحنو عليها، والتودد لها، عمري قلبها بحبك، لاطفيها، بأنها أكثر شباباً، وأن الشباب هو شباب الروح كما يقولون.
أخيراً أطلبي من زوجك أن يساعدك في هذا الأمر، وأن لا يتعامل مع أمه على أنها من جيل مضى، استشيروها فيما يمكن أن تستشيروها فيه من أمور حياتكما، حتى تشعر أنها ما زالت قادرة على أن تقوم بعمل ما، أشعروها بحاجتكم إليها دائماً، فكل ذلك قد يخفف هذه الغيرة التي تشعر بها.