فن التراجع
م. شاهر أحمد نصر
تذكرنا تصريحات وآراء البعض حول المخاطر المحدقة بالوطن، بالتصريحات والآراء الكثيرة التي أطلقت عشية الغزو الأمريكي والغربي ليوغسلافيا، و للعراق، وليبيا... حتى إن البعض يتوقع حصول حرب عالمية...
ونظراً للمخاطر التي يحملها منهج التفكير هذا، من الضروري مناقشته، وهذه الآراء بهدوء ومسؤولية...
إذا عدنا إلى التاريخ القريب نجد أن الكثيرين كانوا قد توقعوا، إبان توجيه الضربات الجوية إلى يوغسلافيا، أن الروس لن يتخلوا عن أبناء جلدتهم من الصرب، خاصة أنهم ينحدرون من عرق واحد، وتجمعهم كنيسة واحدة، فضلاً عن المصالح التاريخية، والاقتصادية، والعسكرية المشتركة، إلا أن ردة الفعل الروسية اليتيمة تجسدت في قطع رئيس الوزراء الروسي زيارته إلى أمريكا، وعودته من منتصف الطريق بالطائرة إلى موسكو... كما أن السفارة الصينية في بلغراد دكت بالصواريخ الأمريكية ولم تحرك الصين حليفة تيتو التاريخية ساكناً... وعند غزو العراق صرح الرئيس الروسي في حينه، بأنّه ليس في صالح روسيا أن تخسر أمريكا الحرب في العراق... كما اكتفت روسيا بتوجيه الانتقادات إلى التدخل الغربي في ليبيا...
يقول البعض تغير الزمن وتغير الواقع...
أجل تغير الواقع، وأصبحت روسيا عضواً في منظمة التجارة العالمية، أي جزءاً من المنظومة الرأسمالية العالمية، تتبادل المصالح مع دولها، وازداد الروس برغماتية، بوضعهم مصالحهم في قمة الأولويات، وأصبح في إسرائيل أكثر من مليوني مهاجر من روسيا، وأصبحت إسرائيل ومصالحها في صلب السياسة الداخلية والخارجية الروسية، كما في أمريكا إن لم تكن أكثر لصاقة... ولا يعتقدن أحد أن الروس سيضحون بمصالحهم الاقتصادية مع الغرب ومع أمريكا بهذه البساطة، أو أن السياسيين الروس المهيمنين حالياً يجرؤون على إغضاب إسرائيل...
تذكرني الآراء غير الموضوعية وغير العقلانية في تقييم المخاطر المحدقة بالبلاد، بالنداءات والرسائل التي وجهت إلى القيادات العراقية، والليبية، واليوغسلافية للتعامل بجدية مع تلك المخاطر، لتجنيب بلدانها الدمار، بل إن بعض تلك الرسائل والنداءات صدرت عمن يتجاهل حالياً هذه المخاطر المشابهة، وعن رؤسائهم... فلماذا يغضون الطرف عن نداءاتهم السابقة حالياً؟!
ترى كيف كانت حال العراق، وليبيا، وحال حكامهما، وأسرهم، والموالين لهم، لو سمعت تلك النداءات؟!
يرى البعض أن تجنب المخاطر التي تدمر البلاد هو ـ استسلام!
وتحضرني في هذه المناسبة آراء لينين في عشرينيات القرن الماضي عندما كانت روسيا تعاني من ويلات الحرب الأهلية، ومن ويلات سياسة شيوعية الاقتصاد التي انتهجها الحكام البلاشفة في ذلك الحين، فما كان من لينين ـ وهو من الماركسيين القلائل الذين فهموا المنهج الديالكتيكي في التفكير ـ إلا أن أطلق شعار: "علينا تعلم فن التراجع". واستبدل سياسة شيوعية الاقتصاد بسياسة النيب (السياسة الاقتصادية الجديدة، ذات التوجه الرأسمالي)... لقد رأى لينين أن التراجع عن النهج الذي يقود إلى تدمير البلاد ليس استسلاماً؛ بل سياسة حكيمة...
كم هو ضروري ومفيد تعلم فن التراجع؛ فهذا الوقت ليس وقت العنجهية، والغطرسة، والعنتريات؛ إنّه وقت إعمال العقل لإصدار مبادرة وطنية شاملة بالتنسيق مع القوى الفاعلة والمؤثرة تقطع مع كل ما يقود إلى دمار البلاد، وتبني للمستقبل بجرأة وغيرة، وتحمل المسؤولية كاملة، لإنقاذ الوطن والشعب.