لا تنسوا الوصية
عمر حيمري
من مظاهر الديمقراطية والعدل والمساواة والحرية ... خروج المرأة للعمل ، وإذا وافقها الحظ ، فقد تصل إلى أعلى المناصب السياسية والاجتماعية فتحقق بذلك إثبات ذاتها وتفوقها في كثير من المجالات على أخيها الرجل ، كما تحطم أسطورة تفوقه عليها ، وتكذب المقولات التي تصفها بالضعف والدونية ، وعند ذلك قد تشعر بنشوة الانتصار ، فتفكر في الانتقام من الذي مارس عليها الظلم والاستبداد ، وذلك بزحزحته عن المناصب التي ظلت حكرا عليه على مر التاريخ أو على الأقل منافسته عليها .
ولكن هل عملها خارج البيت ومنافستها للرجل في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وفر لها السعادة ، وأزال عنها الحيف والظلم ؟ أو رفعها إلى أعلى السلم الاجتماعي ؟ أو جعل المجتمع يعترف بمساهماتها الاقتصادية والاجتماعية ؟؟؟ خارج البيت ، أجر زهيد مقابل ساعات من العمل الشاق ، وتحرش وهدر للكرامة كل حين ( نموذج عاملات معامل النسيج والتصبير والخدمات الموسمية والهامشية والمنزلية ...) وفي البيت استضعاف وتميز جنسي ، وجهد مضني بلا رحمة ولا مساعدة . فكم من امرأة ليس لها من الراتب الشهري والأجرة اليومية إلا المشقة . تشقى وتذل نفسها وتتنازل عن كرامتها أو تخلى عنها ليستفيد زوجها ، أو أبوها ، أو أخوها ... ليس لها من الإرث الذي كتبه الله لها إلا النسب ، ولا من الملكية إلا الرسم العقاري ، ولا من حرية اختيار الزوج إلا السكوت ( السكوت علامة الرضا ) ولا من حق الاعتقاد إلا ما اختار الزوج لنفسه أو اعتاد عليه من طقوس ، يتم كل هذا بعيدا عن مراعاة قوله سبحانه وتعالى : { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها وتعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن ياتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فعسى أن تكرهوا شبيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } (سورة النساء آية 19 ) . وعن قوله صلى الله عليه وسلم [ اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة استوصوا بالنساء خيرا . ولا يفرك مؤمن إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر ] ( رواه أحمد ) كم أثر في نفسي منظر امرأة تبدو في سن لبسبعين وهي حتما لا تتجاوز الأربعين من عمرها ، ترتدي الزي العسكري الخاص بالقوات المساعدة ، هذا الزي ، قد يلائم تجاوزا ، فتاة في ريعان شبابها ، ولكن امرأة أنهكها العمل في ظروف جد قاسية لا تطاق ، كالوقوف لساعات في البرد القارس المجمد للأطراف والحر الشديد القاسي والمشي المستمر والدائم ، مع تلقي أوامر ، ونواهي لا يستسيغها سمع ولا يستوعبها عقل من رؤساء غلاظ القلوب ، لأنها أوامر ونواهي تحملها كلمات بذيئة ن قبيحة نابية محملة بالسب والشتيمة والتحقير ... أضف إلى ذلك متاعب البيت ، ومشاكل الزوج والأبناء ... كل ذلك أثر على صحتها ومظهرها ورشاقتها ، فبدت وكأنها عجوز ارتدت الزي العسكري ، لتلعب دور المهرج ، لتضحك المارة بالشارع . ولكن المارة لم يستجيبوا للضحك بقد ما كانوا ينظرون إليها باشمئزاز ، مستنكرين عدم تناسب الزي العسكري مع عجوز طاعنة في السن ، لن العقل الجمعي عندنا مرتبط بقوة بقانون الأعراف والتقاليد ، وهو المسؤول الوحيد عن تحديد شكل ولون اللباس ونوع اللباس لكل جنس ولكل عمر ولكل مناسبة ... وكل من تحدثه نفسه بالخروج عن هذا القانون أو هذه القاعدة يعرض نفسه للسخرية وللغمز واللمز وقيل وقال ... وربما اتهم في عقله وخلقه ودينه .
حقيقة ، لقد أثر في نفسي ذلك المشهد أيما تأثير ، ودا في خلدي كثير من الأفكار والتصورات المرتبطة بظروف عمل هذه المرأة وغيرها من النساء اللاتي يعملن أعملا كانت إلى عهد قريب حكرا على الرجال ، بل من اختصاصهم لقساوتها ولما تتطلبه من جهد عضلي وقوة بدنية ، كعمل الشرطة ، والدرك ، والعسكر ، واقوات المساعدة ، ورجال المطافئ ...إن هذه الأعمال لا تتناسب مطلق مع المرأة لأنها زيادة على أنها قاسية فهي تحتاج إلى قوة وصلابة وشجاعة وبسالة في كل وقت وحين ، كما تحتاج إلى التجرد من العاطفة في كثير من الأحيان ، وهي فوق هذا لا تتناسب مع شخصية المرأة ولا مع بنية جسمها وقدرتها على التحمل خصوصا أثناء الحيض والحمل والنفاس وفي فترة الرضاعة ... ومظهر المرأة أثناء العمل في هذه الفترات يجلب الشفق عند البعض كما يجلب السخرية عند البعض الآخر ، إلا أن العقل الجمعي قهري ، جبري لا يرحم ، فهو يرفض هذه المظاهر جملة وتفصيلا ن فكم سمعنا في بلدي من النكت والطرف التي تعرض بالشرطيات والعسكريات ... ينفس من خلالها المجتمع عن عدائه اللاشعوري لهذا النوع من العمل الذي أصبحت المرأة تقوم به وتتقلد مناصبه .
إن المرأة عندما يتقدم بها السن ، لا تستطيع التوفيق بين العمل الوظيفي والعمل المنزلي الذي لا يعترف به مجتمعي كعمل ، إلى جانب عدم استعداد الزوج للتعاون أو المساعدة في الأعمال المنزلية وتربية الأبناء ...أضف إلى كل هذا النفقات الجانبية التي تضطر لها المرأة الموظفة ، كنفقات النقل والتجميل والدواء والملابس الخاصة وكل ما من شأنه أن يحافظ على الأناقة والمظهر الخارجي ، الذي غالبا ما تكون نفقاته مرتفعة الثمن ، باهظة التكاليف ... صحيح أن النساء شقائق الرجال ، وهي نصف المجتمع كما يقال ، يمكن أن تساهم في رفع الإنتاج الوطني وتطويروتنمية المجتمع ... ولكن على المجتمع أن يعلم أن الأنثى كالقارورة الزجاجية لا تتحمل العنف ، سريعة التحطم والانكسار . إن هو حافظ عليها وأحسن إليها وعاملها برفق وإن أساءت إليه ، ملكها واستفاد منها ، وإلا تحطمت فأزعجت وتسببت في مفاسد غير مرغوب فيها . فهذا رسولنا لى الله عليه وسلم : تضرب إحدى زوجاته يده فسقط القصعة وتنكسر ن فلا يعنف لها رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم قولا ، ولا يسب لها أضلا ، ولا يضرب لها وجها ..ز وإنما يجمع الطعام ، ويلتمس لها العذر فيقول : [ ... غارت أمكم كلوا فأكلوا ...] تقول عائشة رضي الله عنها : ( مارأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب امرأة ) ( رواه مسلم ) .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفق على النساء ويخاف عليهن حتى من ركوب الجمال وما ينتج عنه من اهتزاز فيقول صلى الله عليه وسلم : [ يا أنجشه رفقا بالقوارير ] ( أنجشه رجل كانت الإبل تهتز طربا لسماع صوته ) . كما كان صلى الله عليه وسلم يوصي بهن خيرا فيقول : [ استوصوا بالنساء خيرا ] ( رواه البخاري في كتاب النكاح – باب الوصية بالنساء حديث رقم 4787 ورواه مسلم في كتاب الرضاعة باب الوصية بالنساء حديث رقم 2671) , ويقول صلى الله عليه وسلم : [ خيركم ، خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ] وفي حديث آخر [ إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائكم ] 0 رواه أحمد ) .
إن السنة النبوية الشريفة والقرآن الكريم مرتبطان بواقع الناس الاجتماعي والنفسي ومن ثم حملا الفرد والجماعة المسؤولية عن المرأة وجعلاها أمانة عند المجتمع ز حقوقها عظيمة عند الله وعند نبيه ، لا يجوز الاعتداء عليها .
فلا تجمعوا عليها مشقتين : العمل والإهانة واذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبراس هذه الآمة فاتبعوه تهتدوا ز وصدق الله العظيم إذ يقول : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ( الأحزاب آية 21 ) .