هيكل: المزرعة والمكتبة!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

نشرت الصحف ذات يوم في الستينيات من القرن الماضي أن السيد ضياء الدين داود ،عضو اللجنة المركزية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي ، وعضو مجلس الرئاسة المصري الذي عينه الرئيس جمال عبد الناصر ليحكم معه وكان يضم ستة أعضاء معظمهم من قادة انقلاب يوليو ، الواحد منهم بدرجة نائب رئيس جمهورية ؛ ذهب إلى جريدة الأهرام ليقابل محمد حسنين هيكل ، رئيس التحرير والرجل الموازي للرئيس جمال في الحياة العامة . ولكن مديرة مكتب هيكل أبقته وقتا طويلا لأنه كما زعمت مشغول ، فما كان من داود إلا أن ألغى طلبه وانصرف مقهورا ليسرب الخبر الى الصحف احتجاجا على سلوك صحفي مع نائب رئيس للجمهورية كما يفترض !

هيكل مذ عرف جمال عبد الناصر وتوطدت علاقته به عقب انقلابه على الحرية والديمقراطية وحبس قائده اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية ، وهو يتعامل مع من حوله بوصفه رئيسا موازيا لايقل عن الزعيم الملهم والقائد المعجزة ونبي القومية العربية ، لذا لم يتناغم مع السادات وحاول مع مبارك وأخفق ، ولم يجد شيئا لدى محمد مرسي ، ومن ثم كان إصراره على أن يعود إلى دوره القديم في ظل انقلاب عسكري ، مع أنه بلغ من الكبر عتيا في عصر انتهت فيه الانقلابات في العالم حتى في إفريقية – واستطاع أن يجد لدى قائد الجيش أذنا تصغي إليه فيعود مع العسكر إلى مجد مضى وزمان تولى بعد أن هيأ الأجواء عن طريق صبيانه ضد الرئيس محمد مرسي!

نسي هيكل أن الزمان اختلف ، وأن الشعب الذي كان يمكن خداعه في عام 1954 ليس هو الشعب عام 2013 ، وأنه مهما بلغت قبضة الانقلابيين القتلة ، ووصلت ضرواتهم الدموية ، فلن يكون الأمر سهلا وبسيطا مثل زمن صاحبه القديم .

صحيح أن الانقلابيين القتلة وصلوا في وحشيتهم إلى قتل الآلاف وإصابة الآلاف واعتقال الآلاف ، ولم يكتفوا بذلك بل أحرقوا المتظاهرين أحياء وأمواتا ، أو طبخوهم على حد تعبير روبرت فيسك الكاتب البريطاني صاحب الضمير، وامتلكوا سلاحا إعلاميا ضاربا حوّل القضية من شعب يدافع عن الديمقراطية والحرية إلى حرب ضد ما يسمى بالإرهاب والعنف و" تسلم الأيادي" !، ولكن دماء الشهداء تحول بين الانقلابيين القتلة وتحقيق غاياتهم الإجرامية الشريرة ، فما زال الشعب حيا يتحرك في الشوارع  ، ويعلن رفضه للجريمة الانقلابية والمجرمين ، ويصر على  التمسك بحقه في الحرية والكرامة والديمقراطية ، وهو مادفع الشعب المعلم – بحق هذه المرة – إلى تقديم نموذج غير مسبوق في التضحيات والثبات والصمود .

اندفاعة الشعب في الشوارع والميادين كما يعرف هيكل صاحبتها محاولات تخريب أشرفت عليها أجهزة الأمن المتوحشة ونفذها البلطجية الذين ترعاهم دولة الفساد منذ ستين عاما ، فأحرقت الكنائس والبيوت والمؤسسات ومحلات الإخوان ومقار الأحزاب الإسلامية وقتل المتظاهرين ، وكانت فيلا هيكل صيدا ثمينا للبلطجية والمجرمين من أنصار الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ، وذاق الرجل بعضا مما ذاقه الآخرون وهو ما كنا نتمنى ألا يحدث وألا يصيبه أذى أو مكروه انطلاقا من عقيدتنا وقيمنا الإسلامية .

هيكل فيلسوف الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ومُوجّه قادته وكاتب خطبه ومحرك صبيانه لتأييده وضرب الكلام عن الحرية والديمقراطية بأقدم حذاء ؛ لم يستنكر بكلمة واحدة العدوان على ممتلكات الإسلاميين وحرق مقراتهم وقتل أبنائهم ، بل كان صبيانه يؤيدون في شماتة رخيصة كل ما يجري من إجرام " ثوري " ضد الإسلاميين ، وما زالوا حتى اليوم يروجون لاستئصال الإسلام وسحق الإسلاميين وقتلهم ودفنهم في مكان واحد من أجل " لم الشمل " !

لو كانت لدينا دولة تملك آليات الحساب الحقيقي لمن يقفون ضد حرية الشعب وكرامته لكان هيكل في مقدمة من يقفون أمام القانون بوصفه متهما أساسيا في إذلال الشعب وحرمانه من الحرية والتدليس عليه في قضاياه الكبرى وتزويرها ، وتبرير جرائم صديقه الطاغية الأول والطاغية الثاني !

ولكن هيكل غضب لأن البلطجية الذين يرعاهم نظامه الانقلابي أحرقوا مزرعته ومكتبته وقدم شكوى إلى النيابة متهما الإخوان المسلمين  (؟) الذين لا يمكن أن يفعلوا ذلك بوازع من دينهم - الإسلام الذي يحاربه هيكل - ومن تربيتهم الخلقية التي ترفض العدوان والأذي. لقد عزف صبيانه على وتر حرق المكتبة التي لامثيل لها وتضم اثنى عشر ألف مجلد – وفي رواية صبي آخر خمسة عشر ألفا- وفيها كتب نادرة ومصاحف فريدة في نوعها ، أحرقها الإخوان الإرهابيون كما زعموا ، وكأن الذين قاموا بالإحراق مكتوب على صدورهم ووجوههم أنهم إخوان مسلمون .

قبيل خطف الرئيس مرسي بأسابيع قليلة في الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ، تمت عملية إحرا ق غريبة لمكتبة تضم أربعين ألف مجلد في مدينة طنطا ، المكتبة حصاد عمر صاحبها الدكتور محمد عباس الكاتب الإسلامي المعروف الذي جمعها كتابا كتابا مذ كان طالبا في كلية الطب . عملية الاحراق لم تبق على شيء من الكتب أو الأثاث . كلها تفحمت وفي وقت سريع للغاية . وجاءت المطافئ بأسرع مايمكن ولكنها لم تجد شيئا لتطفئه ، فقد انتهى كل شيء . والطريف أنه أذيع من جانب الجهات المختصة أن الحريق كان بسبب ماس كهربي مع أن الكهرباء كانت مقطوعة قبل اندلاع الحريق بوقت طويل وذلك ضمن مسلسل قطع الكهرباء والمياه وإغلاق محطات الوقود واشتعال سعر الدولار تمهيدا للانقلاب العسكري الدموي الفاشي . ومع أن خبر حريق مكتبة محمد عباس نشر وأذيع وعرفه صبيان هيكل مثل آخرين فلم يكتبوا كلمة استنكار واحدة لهذا العمل الهمجي البشع ، ولم ينوحوا على الكتب القيمة التراثية والمصاحف التي تضمها مكتبة عباس ، والسبب أن صاحبها مسلم ، والمسلم لا مكان له في مجتمع العلمانية المتحضرة التي تمارس الآبرتايد ضد الأغلبية الإسلامية.

مشكلة هيكل وأشباهه أنه لا يريد الانصراف بالحسنى ، فالسن يفرض عليه أن ينصرف بالحسني ، والماضي يفرض عليه أن ينصرف بالحسنى ، وماجمعه من مال ونشاب يفرض عليه أن ينصرف بالحسنى ، لكنه  مصر فيما يبدو الا ينصرف إلا بالأخرى ، وهي حق الشعب المظلوم الذي ذاق علي يديه وبتخطيطه الحرق في رابعة والنهضة ومسجد الفتح ، وتم طبخه كما قال الكاتب البريطاني روبرت فيسك صاحب الضمير الإنساني الحي أن يصرفه بالطريقة القانونية المناسبة !

ترى هل يحاسب هيكل وفقا لما يسمى العدالة الانتقالية على جرائمه منذ ستين عاما ؟