ضرورة الكشف عن منظمة أرجنيكون "العربية" للوصول إلى بر الأمان

ضرورة الكشف عن منظمة أرجنيكون "العربية"

للوصول إلى بر الأمان

ياوز أجار

هل المعسكر الغربي المؤلف من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا والصين ([1]) والدول التابعة لها هي التي توجّه وتقود المعسكر الشرقي المكون من تركيا وإسرائيل وإيران والدول العربية - الخليجية، أم المعسكر الأول يتخذ موقفه ويحدّد مساره وفق رجحان كفة المعسكر الثاني وموازينه؟! يبدو أن الشق الثاني هو المعقول والمنطقي، بل يتوجّب التسليم به حتى لا نحمل المسؤولية على العدو الخارجي تمامًا ونغضّ بصرنا عن أخطائنا.

لقد استطاع المعسكر الغربي تأسيس دعائم النظام الديمقراطيفي في بلاده بعد صراع طويل مع الأنظمة القمعية التي سادت طوال عهود الإقطاع والعصور الوسطى المظلمة، وحروب أهلية استغرقت قرونًا طويلة. أما المعسكر الشرقي، فعلى الرغم من أنه انتصر في حروب الاستقلال التي خاض غمارها خلال الحربين العالمية الأولى والثانية، وطرد العدو الخارجي من أراضيه، غير أن الدولة العثمانية التي كانت تزعم العالم الإسلامي آنذاك قد انهارت، فنشأت عن الفراغ الحاصل من غيابها دويلات وإمارات صغيرة، معظمها عربية، على مناطق مختلفة كانت تخضع لها، ومن ثم لم تفلح هذه الدول في إقامة أنظمة ديمقراطية أو أي نظام يحترم لحقوق المواطنين وحرياتهم. ولهذا أسباب كثيرة ومتنوّعة لا مجال لسرد جميعها.

من الوصاية الخارجية إلى الوصاية الداخلية

كانت الشعوب الشرقية قد انطلقت من قيود الوصاية الأجنبية، ولكن بعد ذلك سلّمت زمامها إلى وصاية محلية تجسّدت في أنظمة ملكية أو عسكرية تحصر الحكم في فئة نخبوية معينة دون الأخرى، وتدور بشكل خفي أو علني في فلك الدول الغربية المنتصرة. وما إن مضى وقت حتى أدركت الشعوب المسلمة أنها تحرّرت من الطاغوت الخارجي، إلا أنها وقعت في شباك الطواغيت المحليين الجدد، وهم من بني جلدتها ويتكلمون بلغتها وينتمون لدينها، ولكنهم يتحركون طبقًا لإرادات وإملاءات أعدائها الذين انتصرت عليهم في حروب الاستقلال، الأمر الذي أحدث لديها صدمة كبرى.

وحيال هذا الواقع الجديد، أظهرت الشعوب المسلمة ردود فعل مختلفة ونهجت مناهج شتى في التعامل مع الأنظمة الحاكمة في بلادها، يمكن تقسيمها إلى قسمين ومنهجين رئيسين: المنهج الأول فضّل تغيير المجتمع عن طريق الخوض في غمار السياسة، وشكّلت أحزابًا للوصول إلى سدة الحكم بالكفاح السياسي عبر الفوز في الانتخابات. واستخدم التابعون لهذا المنهج مفاهيم وشعارات إسلامية للعاية والترويج لمذاهبهم وبرامجهم السياسية والفكرية، ومزجوا هويتهم الإسلامية بنشاطاتهم السياسية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أطلقوا على أحزابهم "الحزب الإسلامي" أو "الجبهة الإسلامية" والمؤسسات التابعة لهم "المدرسة الإسلامية" أو "المستشفى الإسلامي" ..الخ. ولكن خطأ هذا المنهج أو خطره كان يكمن في أن الأخطاء التي قد يرتكبها سالكوه وهم يزاولون أنشطتهم السياسية، والمواصفات المنخفضة والسمعة السيئة لمؤسساتهم الاجتماعية والسمعة السيئة التي اشتهرت بها كالمستشفيات والمدارس، بدأت تلصق بالإسلام وتشوّه صورته الناصعة، إضافة إلى سمعة أنفسهم. فضلاً عن ذلك، فإن الأنظمة الحاكمة لم تكن لتسمح لهم بتمسّك زمام أمور الدولة، وإن حصلوا على أكثرية أصوات الناخبين، إن كانت تجرى الانتخابات أصلاً. لذلك رأينا العديد من الانقلابات العسكرية في بلادنا، أطاحت الإسلاميين الواصلين إلى الحكم عن طريق الانتخابات، مثل ما كان في كل من تركيا منذ ستينات القرن الماضي، والجزائر، ومصر في هذه الأيام.

أما المنهج الثاني، فرجّح تغيير المجتمع على الصعيدين الشخصي والاجتماعي عن طريق العلم والفكر والثقافة، وفقًا لسنن التغيير التدريجي للنفس والمجتمع، واعتبر السياسة أمرًا ثانويًّا. وكثّف ممثّلو هذا المنهج جهودهم بصورة رئيسية في تربية أجيالٍ أصحابِ أخلاق عالية، مزوّدين بالعلوم الدينية والحديثة معًا، عن طريق فتح مدارس وبناء مؤسسات اجتماعية وثقافية وفكرية واقتصادية. وبالرغم من أنهم لم يستخدموا خطابات وشعارات إسلامية معلنة، ولكنهم أتقنوا في عملهم، وأظهروا نجاحات باهرة في كل المجالات، فأغناهم ذلك عن الدعاية المعلنة عن المبادئ والقيم التي يتبنونها وينادون لها، لأن الناس رأوها متمثّلة في تلك المؤسسات ونجاحاتها البارزة. وبما أن التغيير الشخصي والاجتماعي المطلوب لا يأتي بين ليلة  وضحاها، كما قال "سيد قطب"– رحمه الله – فإن أصحاب هذا المنهج اعتقدوا بضرورة التدريج والتأني في التعامل مع الناس والحكام في بلادهم. ومع كل ذلك، فإنهم لم يهملوا السياسة ولم يتركوها لأهواء الحكام تمامًا، بل بعد الفصل شبه الكامل بين هويتهم الإسلامية ونشاطاتهم، تفاديًا للخطر أو الخطأ الذي وقع فيه ممثلو المنهج الأول، حاولوا توجيه مسار السياسة وفق أهدافهم السامية، بكل وسائل الضغط التي يحوزونها، خاصة الوسائل الإعلامية والاقتصادية. وعندما وصلوا إلى مستوى معين من النضوج الاجتماعي على المستويين المحلي والإقليمي والدولي، أسسوا أحزابًا لا تحمل أسماء إسلامية معلنة، ولم يعتمدوا في الدعاية على خطابات إسلامية، وإنما على النجاحات التي حقّقوها في المجالات العلمية والاقتصادية وغيرها.

التجربة التركية في مكافحة القوى المعارضة للديمقراطية

وأفضل مثال على ذلك هو المراحل التي مرّ بها حزب الرفاه المعروف بجذوره الإسلامية، والذي تزعّمه نجم الدين أربكان الراحل – رحمه الله – والذي تحوّل اسمه إلى حزب الفضيلة، فحزب السعادة، بعد إغلاق الأولين، وأخيرًا تولّد من أحضانه حزب العدالة والتنمية، برئاسة رئيس الوزراء التركي الحالي رجب طيب أردوغان، الذي يحكم البلاد منذ العقد الأخير. وقد استفاد أردوغان من تجربة الحزب الإسلامي المذكور الذي أفرط في استخدام الخطابات الإسلامية، مما أثار غضب الجناح العسكري وقدّم بيده إليه ذرائع للانقلاب عليه وإغلاقه عدة مرات. إذ رأينا أردوغان – مع زملائه - قد تجنّب استخدام خطابات إسلامية في عمله السياسي قدر الإمكان، وفصل بين هويته الإسلامية وهويته السياسية قدر المستطاع، وبرز بنجاحاته الاقتصادية على وجه الخصوص. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن النجاح الباهر لحزب العدالة والتنمية اعتمد على أرضية قد ساهم في إعدادها كل الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة، ومنظمات المجتمع المدني على اختلاف مذاهبها وتوجهاتها، والقوى الديمقراطية اليمينية واليسارية والليبرالية وغيرها.

إن الأحداث الصاخبة التي شاهدنها طيلة السنوات الثلاث الأخيرة في المنطقة، خاصة بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بأول رئيس منتخب في تاريخ مصر محمد مرسي، وبدأت تدق أجراس العودة إلى الوراء، برهنت أن صناديق الاقتراع لا تعتبر كل شيء ولا تنطوي على أي قيمة في البلدان الإسلامية التي لا تحمل إرادة المواطن فيها قيمةً إلا بقدر قيمة ورقة تصويته، ولا تخضع "أعماق الدولة"، والسلك العسكري، وجهاز المخابرات للإرادة السياسية المدنية الحاكمة، وإن كانت تعدّ كل شيء وتحتوي على أي قيمة كبيرة في البلاد التي يحكمها نظام ديمقراطي بكل متطلباته ومظاهره. لقد رأينا أن الانتخابات لا تفيد شيئًا كثيرًا لدى دول المعسكر الشرقي، لعدم قدرة "السلطة المدنية" على جمع معلومات صحيحة عبر "جهاز مخابرات" يخضع لها وينقاد لأوامرها، وعدم امتلاكها الوسائل التي تمكّنها من معرفة ما سيأتي على رأسها بعد غد بسبب مخطّطات مجموعات ومنظّمات سرية غير قانونية، وبسبب افتقار "الصحافة" في تلك الدول إلى الحرية المطلوبة، و"المؤسسة القضائية" إلى الاستقلال الكامل.

قضية القرن في تركيا

غير أنه من الممكن استثناء تركيا من دول هذا المعسكر، فإن الأوضاع فيها بدأت تتغيّر نحو التحسّن، وأصبحت محطّ أنظار الجميع في الآونة الأخيرة، بعد أن نجحت في إفشال الكثير من المخطّطات الانقلابية، وذلك بفضل الكفاح الذي تقوده في العقود الثلاثة الأخيرة ضد المجموعات الانقلابية والمؤيّدين لنظام الوصاية المستمر منذ أكثر من قرن.

ولهذا الكفاح ضد المجموعات الانقلابية في تركيا أهمية كبرى، تمامًا مثل أهمية حرب الاستقلال. فكما أن هذه الأخيرة أنقذتها من الوصاية الخارجية، كذلك مهّدت مكافحةُ منظمة وشبكة "أرجنيكون" السرية الطريقَ إلى التحرّر من نظام الوصاية الداخلي الذي لا يعترف بإرادة الشعب، ولا يخضع للقانون. وبفضل ذلك، فإن عشراتٍ من المحاولات لإحداث انقلاب عسكري في العقد الأخير باءت بالفشل ولم تنجح، بفضل قضية أرجنيكون الإرهابية المذكورة. وقد أطلقت معظم وسائل الإعلام التركية على هذه القضية "قضيةَ القرن"، نظرًا لأنها أحبطت مخطّطات وضعها جنرالات وضباط في الجيش التركي للإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2002. كما أن وثائق المحكمة تعرّف هذه المنظمة بأنها "دولة سرية داخل دولة"، تسرّب أعضاؤها إلى مواقع مهمة في الجيش ومؤسسات مهمة أخرى في القطاعين العام والخاص، بهدف الإطاحة بالنظام الحاكم في البلاد، وتمّ الكشف عنها "رسميًّا" لأول مرة عام 2007.

ولكن ينبغي أن نذكّر بأن مكافحة منظمة أرجنيكون، التي دعاها العلامة "بديع الزمان سعيد النورسي" "الشبكة السرية"، والتي قال عنها بأنها أقدمت على تسميمه 19 مرة لتقتله، ولها امتدادات وأذرع كثيرة في الداخل والخارج مثل أذرع الأخطبوط، لم تكن سهلة بالمرة. فضلاً عن ذلك، فإن اجتثاث جذورها لم يتمّ بعدُ، ولكن الشوط الذي قطعتها تركيا في سبيل القضاء عليها قد قدّم مساهمة كبيرة في الحفاظ على الإرادة الشعبية من التعرّض لانقلاب عسكري جديد.

لذلك فإن التجربة التركية في مكافحة منظمة أرجنيكون الانقلابية تحتوي على أهمية كبيرة، ليس فقط للدول الإسلامية كتونس ومصر وليبيا، بل لكافة البلدان التي نجحت في الحصول على استقلالها، ولكن لم تترسّخ فيها جذور الديمقراطية بعدُ. فمثلما استفادت تركيا في الكفاح ضد القوى والأوساط المعارضة للديمقراطية، والمتوغّل أعضاؤها في جميع دوائر الدولة والحكومة، من تجربة إيطاليا في قضية "غلاديو"، وتجربة كل من اليونان والأرجنتين في محاكمتهما للانقلابيين، كذلك ينبغي على الشعبين المصري والتونسي والشعوب الأخرى التعرّف إلى أعضاء القضاء التركي الذين كشفوا الغطاء عن منظمة أرجنيكون وأودعوا منتسبيها من الجنرالات والضباط العسكريين في السجن، وكذلك مسودات الاتهام والأحكام التي أصدروها بحقهم، إلى جانب الاطلاع على الأبطال من أفراد الشرطة والضباط المجهولين والسياسيين ذوي الحنكة والفراسة والصحفيين الاستقصائيين ومنظمات المجتمع المدني الذين تابعوا قضية أرجنيكون عن كثب وبكل حساسية.

ضرورة الكشف عن منظمة أرجنيكون "العربية"

فإذا نجحت الشعوب العربية في الاستفادة من التجربة التركية على الوجه المطلوب في مكافحة منظمة أرجنيكون، وأفلحت في الكشف عن منظمة أرجنيكون "العربية"، بكافة أذرعها والشبكات التي تربطها، وإنقاذ بلادهم من جميع الشبكات والمنظمات السرية المنخرطة في كل الدوائر الحكومية وشرائح المجتمع لديهم، فحينها سوف تكون صناديق الاقتراع كل شيء وتكسب قيمة كبيرة، كما كان الأمر لدى الدول الديمقراطية على وجه الحقيقة لا المجاز.

               

[1]تُستخدم هنا كلمتا الشرق والغرب بالمعنى الاصطلاحي الذي يراه بعض المفكّرين، فالأولى للدلالة على الشعوب الإسلامية والثانية على كافة الشعوب غير الإسلامية على اختلاف مذاهبها، لذا ذكرنا روسيا بين المعسكري الغربي وإن تقع في الشرق.