"التشيّع" وتجنيس الشيّعة في "سوريا الأسد"...
"التشيّع" وتجنيس الشيّعة في "سوريا الأسد"...
بحثٌ نادرٌ حول الأرقام والأهداف والسيناريوهات (1-2)
بشّار الأسد فتح الباب على مصراعيه للنفوذ الإيراني لعملية التشيع داخل سوريا
لاصعوبة أمام الشيعة -حتى من غيرالسوريين- في فتح كلّيات دينية في سوريا.
بيان من 200 من كبار علماء الشام إلى بشّار لم يخفوا فيه غضبهم وحنقهم من المد الشيعي
تنصيب أشخاص من الأقلية الشيعية في مناصب حساسة وتقديمهم للعامّة على أنّهم من السنّة
نشرت مجلة "المجلة" بحثاً نادراً حول ملف التشيّع في سوريا، قبل الثورة وخلالها، وأبرز أبعاد هذا الملف، من النواحي الديمغرافية والجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، وأبرز الترتيبات التي أعدها النظام بناء على هذا الملف.
البحث الذي أعده، علي حسين باكير، الباحث في منظمة البحوث الإستراتيجية الدولية (USAK) أنقرة- تركيا، اعتمد على جملة من المراجع والأبحاث السابقة، القليلة أصلاً في هذا المجال، إلى جانب اعتماده على مصادر إعلامية عديدة دون الإشارة إليها، ومن ذلك مادة سبق أن نشرتها "اقتصاد" تحت عنوان "حمص في قلب الهلال الشيعي"، خاصة في الفقرة التي تحدثت عن مشاريع النظام لوصل "الدويلة العلوية المتخيّلة" بمناطق تركز الشيعة في لبنان، وبالعراق المحكوم شيعياً.
حمل البحث عنوان "كيف يتلاعب الأسد بالمعطيات الديموغرافية في سوريا؟...تجنيس الشيعة"، يبدأ فيه الباحث بتعداد أبرز الدراسات المحدودة حول ملف التشيّع في سوريا، لينتقل بعد ذلك إلى مقارنة سريعة بين "التشيّع" في عهد حافظ الأسد، وأبرز التحولات التي طرأت على هذا الملف في عهد ابنه بشار، ومن ثم يفصّل الباحث ملامح مشروع "التشيّع" وتجنيس الشيعة في سوريا في عهد بشار الأسد، قبل الثورة، وخلالها، موثقاً بالأرقام، الاختلافات التي طرأت على أعداد الشيعة المجنسين سورياً، والارتفاع الكبير في نسبة الزوار الشيعة الإيرانيين والعراقيين لسوريا، والمزارات والمراقد والحسينيات التي أُنشئت لدعم هذا المشروع خلال العقد الأخير.
وفيما يلي نستعرض الجزء الأول من هذا البحث المذكور، كما ورد في مجلة "المجلة":
أثار قيام نظام بشّار الأسد بمنح الجنسيّة السورية لأعداد كبيرة من الشيعة مؤخرا، الكثير من المخاوف والهواجس المرتبطة بسيناريوهات المرحلة المقبلة، خاصة أنّ ذلك جاء مترافقا مع قيام النظام بعملية إبادة وتهجير ممنهجة لبعض المناطق، تبعها إحراقه للعديد من مراكز تسجيل الملكيات، ومباني التسجيل العقاري في مناطق مختلفة كما حصل مؤخرا في حمص.
يبلغ عدد الشيعة في سوريا وفقاً للأرقام الرسميّة حوالي 0.4% من إجمالي السكّان، فيما ترفع بعض المواقع الإلكترونيّة التابعة لهم نسبتهم إلى 2%، علماً أنّه غالبا ما يتم دمجهم مع العلويين حينما يتم الإشارة إلى نسبة العلويين من إجمالي الشعب السوري، والتي تصل مع كل الفئات الأخرى من التشيّع إلى حوالي 12% من السكّان. ناهيك عن المهاجرين من الإيرانيين واللبنانيين، والعراقيين أيضا الذين يتجاوز عددهم وحدهم المليون، أي أكثر من 5% من السكان.
دراسات سابقة عن التشيّع في سوريا
ولا يُعدّ موضوع التشيّع والتجنيس جديدا على المشهد السوري، حيث تم تداوله سابقا على مستويات متعددة داخل وخارج سوريا بشكل سري وعلني، وعلى فترات مختلفة من مرحلة الرئيس السابق حافظ الأسد، كما في عهد الرئيس بشار الأسد، على أنّ الجزء الأكبر منه كان خلال الفترة الثانية أي منذ تولي بشار الأسد سدّة الرئاسة خلفا لأبيه في العام 2000.
خلال تلك الفترة تمّ إنجاز العديد من الدراسات والأبحاث التي ترصد وتناقش هذا الموضوع، بعضها غلب عليه الطابع الديني، الا أنّ البعض الآخر تميّز بالرصانة والبُعد العلمي، لعلّ أبرزهم:
1) في العام 2006، نُشرت دراسة تحت عنوان (عملية التشيع في سوريا 1985- 2006، دراسة اجتماعية- إحصائية)، وجاءت الدراسة في 32 صفحة، وقدم لها الكاتب والصحفي السوري نزار نيوف.
وقد قام بهذه الدراسة باحثون ميدانيون في مجال “علم الاجتماع” و”علم الاجتماع السياسي” و”الإحصاء”، ويشتركون في أنهم جميعا علمانيون ونشطاء في حركات “المجتمع المدني” السورية. وقد أُجريت الدراسة على مدى ستة أشهر، وهي تتناول “التشيع” في سوريا خلال عشرين عاما، مع ملحق إضافي تناول النصف الأول من العام 2006.
2) وفي يونيو من العام 2009، نُشِرت دراسة أصغر من 26 صفحة، وحملت عنوان “التحوّل الشيعي في سوريا” وذلك كفصل من فصول إصدار “اتّجاهات حاليّة في الأيديولوجيا الإسلامية” في المجلد الثامن الصادر عن (مركز الإسلام والديمقراطيّة ومستقبل العالم الإسلامي) في معهد هادسون. وقد أعدّ هذه الدراسة البروفيسور خالد سنداوي، وهو متخصص في الدراسات الشيعيّة، وله عدّة مؤلفات وأبحاث قيّمة وعلميّة منشورة في مجلّات محكّمة في هذا المجال. وتشكّل دراسته هذه جزءا من كتاب له سينشر عام 2014.
3) وفي العام 2009، نُشرت دراسة أخرى بدت رصينة وعلى قدر عالٍ من الاحترافيّة والتوثيق والتدقيق تحت عنوان (البعث الشيعي في سوريا 1919- 2007) قام بها “المعهد الدولي للدراسات السوريّة” والذي عرّف عن نفسه بأنّه معهد بحثي مستقل وغير ربحي ومتخصص في الدراسات السوريّة. وقد رعت هذه الدراسة التي تقع في 208 صفحات “حركة العدالة والبناء” حيث تم التنويه إلى ذلك في الدراسة المنشورة.
التشيع كمشروع سياسي في عهد بشّار الأسد
كل هذه الدراسات على اختلاف توجهاتها وآلياتها البحثية تجمع على حقيقة أنّ موضوع التشيّع بدأ في عهد حافظ الأسد الذي كان واعيا للأمر، ويستخدمه لأغراض خاصّة فيتحكّم به سماحا ومنعا متى ما شاء، وتصاعد بشكل علني غير مسبوق في التاريخ السوري في عهد ابنه بشّار الأسد الذي فتح الباب على مصراعيه ومن دون أيّة شروط أو قيود للنفوذ الإيراني لعملية التشيع داخل سوريا، بل وحتى بتسهيل غير محدود من نظامه وأجهزته الأمنيّة والاستخباراتيّة.
فبعد وفاة والده عام 2000، وعندما أصبح بشار الأسد رئيسا، بدأ التوازن الذي وضعه حافظ الأسد بخصوص النشاط الإيراني في الانهيار، فقد كان وصول بشّار عاملاً حاسماً في رفع أيّة قيود على النشاط الشيعي الإيراني في سوريا بالشكل الذي يحلو لهم، وقد بدا واضحا أنّ التشيع تحول إلى مشروع سياسي.
وتشير التقارير إلى أنّه -وعلى عكس والده- لم يتقرّب بشّار من المشايخ السنّة، وإنما من نظرائهم الشيعة خاصة خارج سوريا. وقد كان بشّار متأثّرا بشكل كبير أيضا بشخصيّة حسن نصر الله، حيث كان لهذه العوامل أثرها في تسهيل النشاط الشيعي في سوريا، بالإضافة إلى وجود قرار سياسي وأمني بدعم عمليات التشيّع، لدرجة أنّ رجل الدين البارز “البوطي” والمقرّب من النظام (قُتل مؤخرا) انتقد في نيسان/أبريل 2006 بشكل علني التمدد الشيعي في البلاد واحتلالهم حتى للمنابر والمقامات السنيّة.
ويضيف آخرون إلى هذه الأسباب، عوامل أخرى، منها:
1) إنشاء عدد كبير جدا من المزارات الشيعيّة في أنحاء مختلفة من سوريا. ويتم هذا الأمر بداية من خلال السيطرة على أحد القبور (او حتى اختلاقها كما جرى في دارايا) ومن ثمّ نسبته إلى أحد أفراد أهل البيت حتى يتم العمل على إنشاء بناء عليه، ثم يتم تطويره وتوسيعه حتى يصبح مزارا يأتيه الإيرانيون والشيعة حجّاجا بالآلاف، فيقيم بعضهم ويستقر هناك، ثمّ ينشأ “مجتمع المقابر” فيتم شراء البيوت والأراضي المحيطة بالقبر للتوسّع، فتضاف حسينية إلى المكان، وربما مجمّع كبير، وكذلك بناء فنادق وأسواق وأماكن سكن محيطة بالقبر والحسينية، بحيث تكون مستعمرة إيرانية تحت غطاء الدعوة الدينية للتشيع لأهل البيت.
2) الإغراءات الماليّة والاقتصاديّة والتعليمية للفقراء، وقوّة الإعلام الشيعي، وفتح المجال له بشكل رسمي. إذ لم يفهم المواطنون السوريون لماذا يقوم التلفزيون السوري الرسمي للبلاد بتقديم برنامج لمدة ساعة للمبشر الشيعي العراقي عبد الحميد المهاجر؟ ولماذا تَبثُّ برنامجا تبشيريّا للعراقي عبد الزهراء، ولماذا تقوم محطة راديو “إف إم” ، ببث مواد فكرية وسياسية مماثلة لمواد حزب الله في لبنان، و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” في العراق!
3) نفوذ حزب الله السياسي والعسكري خاصّة بعد حرب لبنان عام 2006، ونشوء الحلف الثلاثي (حزب الله –الأسد –النظام الإيراني) الذي دفع بعمليات التشيّع والنفوذ الإيراني ليصل إلى أوجه في سوريا.
انكشاف مشروع الأسد التشيّعي سياسيّا واجتماعيّا
ما بين العام 2001 و2006، أنشئ في منطقة السيدة زينب وحدها أكثر من 12 حوزة شيعية، وثلاثة كليات للتعليم الديني الشيعي، أي أنّه خلال عدّة سنوات فقط تمّ إنشاء ثلاثة أضعاف ما تمّ بناؤه في ربع قرن، كما حصلت أول جامعة إسلامية شيعية على ترخيص أمني للعمل في سوريا في عام 2003.
ولوحظ أنّ الشيعة (حتى من غير المواطنين السوريين) لا يجدون أي صعوبة في فتح كلّيات لهم في سوريا. ففي العام 2006 على سبيل المثال تم افتتاح كلية دينية شيعية في بلدة الطبقة رغم أنّه وفقا للبروفيسور خالد سنداوي لا توجد في سوريا بأكملها سوى كلّيتين دينيتين سنّيتين، واحدة في دمشق والثانية في حلب حصلت على الموافقة في عام 2007 بعد عقود من الانتظار!
وتشير المعلومات إلى أنّ هناك ما يزيد اليوم عن 500 حسينية قيد الإنشاء في سوريا. وقد أدّت هذه المعطيات مجتمعة والمتعلّقة بأقليّة من هذا النوع إلى طرح السؤال “لماذا”؟! ونجم عن ذلك موجة كبيرة من التململ والتذمر والاحتجاج غير المسبوق في تاريخ سوريا.
ففي تموز/ يوليو من العام 2006، أصدر أكثر من 200 من كبار علماء الشام وسوريا بيانا موجّها بشكل مباشر وخاص إلى رئيس الجمهورية بشّار الأسد، وهو البيان الأوّل من نوعه منذ أكثر من 35 عاما، لم يخفوا فيه غضبهم وحنقهم من المد الشيعي الحاصل في البلاد مع إشارات واضحة إلى أنّه يتم برعاية رسمية نظرا وبخلاف كل القوانين المعمول بها في البلاد بما في ذلك القوانين والقرارات الحكوميّة والرسميّة والتي تسري حتى على الشأن السنيّ، وكان من بين الموقّعين على البيان مدير التعليم الشرعي في وزارة الأوقاف، الأمر الذي أدى الى طرده من منصبه على الفور.
وقد شهد ذلك العام أيضا انتقادات من قبل أطراف سورية متعددة للنفوذ الإيراني المتزايد، والذي يتضمن عمليات تبشير شيعي وتغيير ديمغرافي واجتماعي في أنحاء مختلفة من سوريا، بمن فيهم نائب الرئيس السوري المنشق عبد الحليم خدام، جبهة الخلاص الوطني المعارضة للنظام السوري، والتي أصدرت بيانات انتقدت هذا الجانب.
من أهداف النظام في تجنيس فئات من الشيعة هو تهيئة الأرضية الشرعيّة والقانونية للميليشيات المقاتلة إلى جانب النظام السوري في حربه التي يشنها على المواطنين، وبالتالي فإنه يرفع من فعالية الاستفادة القصوى من هذه الميليشيات ليس في هذه الفترة فقط وإنما في المستقبل.
وكذلك فعلت شخصيات حقوقية كان أبرزها رئيس الجمعيّة السوريّة لحقوق الإنسان آنذاك المعارض السوري عضو الائتلاف الوطني حاليا هيثم المالح. بل وقامت شخصيّات سوريّة رسميّة بالاعتراف بهذا الواقع بشكل سريّ عاكسة تذمّر المجتمع السوري.
إذ نقلت برقيّة دبلوماسيّة للسفارة الأمريكية في دمشق مصنّفة على أنّها “سري” بتاريخ 8-2-2007 تحت عنوان “التشيع في سوريا، وانتخابات النظام” تفاصيل لقاء تم بين الدكتور سمير التقي مستشار وزير الخارجية السوري وليد المعلم آنذك، وبين القائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة في دمشق، مايكل كوربن.
وقد تحدث التقي بتفصيل عن القلق المتنامي في سوريا نتيجة الجهود الإيرانية في عملية تشيع البلاد في ظل مخاوف من تزايد الاستياء السني إزاء ذلك. وبحسب التقي فإنّ معظم هذا الجهد يتركز في شمال شرق البلاد، وقد ضرب على سبيل المثال الأنشطة الإيرانية المتواصلة في محافظة الرقة، في شمال شرق سوريا، وهي من المحافظات الصغيرة نسبيّا، حيث قامت إيران بتمويل بناء مجمع يضم مسجد ضخم، وفندق كبير، ومطار.
كما نُقل عن التقي إشارته الى أنّ النظام السوري له تاريخ في تنصيب أشخاص من الأقلية الشيعية في سوريا في مناصب حساسة، بالرغم من أن الشيعة في سوريا لا يتعدون 1% من السكان، وتقديمهم للعامّة على أنّهم من السنّة كي يتجنب حقيقة تعيين سنّة في هذه المناصب.