معركة حمص ومعضلة غياب العمق الإستراتيجي
د. بشير زين العابدين
باحث سوري
* خبايا الإستراتيجية العسكرية لدى "حزب الله" والدور الإقليمي الجديد:
في مقابلة فريدة من نوعها كشف أحد القادة العسكريين في تنظيم "حزب الله" عن تفاصيل الإستراتيجية العسكرية الجديدة غربي سوريا؛ حيث يقاتل الحزب لإحكام سيطرته على ريف القصير جنوباً ومدينة تلكلخ غرباً ومدينة القريتين شرقاً.
وفي المنطقة الواقعة داخل المثلث الإستراتيجي ما بين القصير وتلكلخ والقريتين؛ يعمل الحزب على إحكام سيطرته على قرى المنطقة لتأمين طوق يمتد على طول الحدود اللبنانية-السورية من الشمال حتى البقاع الشمالي عند منطقة الهرمل وصولاً إلى القاع.
أما بالنسبة لطريقة تنفيذ العمليات في مدينتي القصير وحمص؛ فقد اعتمد الحزب إستراتيجية عسكرية تقوم على المراحل الأربع التالية:
1- جمع معلومات استخباراتية دقيقة عن تعداد الكتائب المعارضة وأماكن تمركزها وطرق إمدادها في المدينة، ومن ثم إعداد خطة اقتحام تدريجي عبر تقسيم المدينة إلى عدة أقسام.
2- فرض عزلة كاملة على جميع الأحياء الواقعة في القسم المستهدف من خلال قطع الخدمات الأساسية وكافة وسائل الاتصالات، وإغلاق مداخله ومخارجه ونشر نقاط تفتيش متقدمة لتأمين الحصار، وتكليف مجموعة من الخبراء في مجال الأنفاق بمهمة البحث عن جميع معابر الإمداد السرية وإغلاقها.
3- استهداف الأحياء المحددة بقصف جوي ومدفعي مكثف، مع مراقبة تحركات مقاتلي المعارضة باستخدام تقنيات روسية وصينية متطورة، وذلك بهدف تدمير مقارهم، وإنهاك مقاتليهم.
4- تولي الفرق الخاصة عمليات الاقتحام مدعومة بعربات مصفحة ومزودة بمدافع دوشكا من أعيرة: (Dushka, 75, 106, 155) والتموضع في الأماكن الإستراتيجية التي يتم تحديدها وفق خطة الاقتحام، ومن ثم تمشيط الأحياء والمباني فيها وإلقاء القبض على من تبقى من مقاتلي المعارضة.
وفي صراحة ملفتة للانتباه أضاف القائد الميداني أن الجناح العسكري للحزب يتولى بنفسه جميع عمليات الحصار والقصف والاقتحام دون أي مشاركة من قبل قوات النظام السوري، مشيراً إلى أن دور جيش النظام في عمليات حمص والقصير قد اقتصر على توفير الدعم الجوي والإسناد، ومؤكداً أن العمليات العسكرية في الأشهر الثلاثة الماضية هي من تخطيط وتنفيذ الحزب الذي تبنى إستراتيجية مغايرة لتلك التي كان يتبعها النظام السوري.
فقد قسمت مدينة القصير إلى 16 منطقة عسكرية، وتم استهدافها الواحدة بعد الأخرى حتى تم "تطهيرها" بالكامل، وكذلك هو الحال بالنسبة لحمص التي يتم استهداف أحيائها -الواحد بعد الآخر- في قصف جوي ودفعي مكثف يهدف إلى إنهاك قوى المعارضة، تمهيداً لاقتحام الأحياء المتبقية من حمص القديمة.
وفيما يناقض تصريحات مسؤوليه اعترف القائد الميداني أن الحزب قد تكبد خسائر فادحة في صفوف مقاتليه لأنه اعتمد في أول الأمر على كتائب قوامها من المتطوعين والمجندين حديثي التدريب، ولما تبين لقيادة الحزب أن مقاتلي المعارضة يتمتعون بتدريب عال ويمتلكون أسلحة متطورة؛ تقرر إرسال كتائب من القوات الخاصة من المقاتلين الذين يحملون: "التكليف الشرعي"، وذلك في إشارة إلى فرق خاصة من مقاتلي الحزب المحترفين والمتفرغين للقتال.
لكن الجانب الأكثر أهمية في تلك المقابلة هو تأكيد القيادي في الحزب أن العمليات العسكرية في سوريا هي تمهيد للدور الإقليمي الذي يسعى الحزب إلى ممارسته في الفترة القادمة؛ إذ تؤكد مصادر مطلعة أن قيادة "حزب الله" قد اتخذت قراراً إستراتيجياً بالضلوع في عمليات عسكرية على الصعيد الإقليمي بعد تصنيف الاتحاد الأوروبي الجناح العسكري للحزب على أنه منظمة إرهابية، مما دفع بقيادته لتبني سياسة جديدة تقلص فرص عزلته الإقليمية وتجعله جزءاً من المعادلة الأمنية في المنطقة، وذلك عبر الانخراط ضمن الإستراتيجية العسكرية الروسية، وتصوير نفسه على أنه جزء أساسي في الحرب العالمية على الإرهاب، وهو مفهوم أخذ يسوق له حسن نصر الله بصورة واضحة في الفترة الأخيرة.
ولفتت مصادر غربية الانتباه إلى أهمية الدور الروسي في عمليات القصير وحمص، حيث بادرت روسيا إلى توفير تقنيات الرصد المتطورة، وإمداد الكتائب المقاتلة بالعربات المصفحة، والمنظومات الصاروخية المتطورة، حيث تلتقي السياسة الروسية والإيرانية في العمل على تفكيك الكتائب الإسلامية السنية غربي البلاد، وهو أمر رحبت به تل أبيب شريطة ألا يخل في التوازنات العسكرية القائمة.
وفي أتون المعارك الدائرة في حمص شهدت محافظة اللاذقية المتاخمة وصول سفينتين حربيتين هما (Nikolai Filchenkov) وعلى متنها 300 مقاتل و20 دبابة و15 ناقلة جنود، وكذلك السفينة الحربية (Admiral Kulakov) وعلى متنها 300 مقاتل ومزودة بمعدات متطورة مضادة للغواصات.
كما تشير المصادر العسكرية إلى وصول منظومات صاروخية وتقنيات متطورة في سلاح الإشارة والاستطلاع من موسكو إلى "حزب الله" لدعم عملياته في حمص، وذلك في مقابل تردد الغرب وعدم رغبته في تقديم أي مساعدة فعلية يمكن أن تغير مسار المعركة.
* النظام السوري وإستراتيجية الهروب إلى الأمام:
لكن نشوة التقدم العسكري في القصير وحمص لا تتردد أصداؤها في القصر الجمهوري بدمشق؛ حيث يسود القلق إثر تزايد وتيرة العمليات النوعية لكتائب المعارضة في العاصمة، وفي ظل هذه الأجواء الصعبة عقد "حزب البعث العربي الاشتراكي" مؤتمراً شابه التوتر والكتمان، وأسفر عن تشكيل قيادة قطرية جديدة استبعد منها "فاروق الشرع" آخر رموز الحرس القديم وتم اختيار أعضاء أظهروا ولاء منقطع النظير للنظام، في حين بقي الرئيس "بشار الأسد" في منصب الأمين القطري.
أما من الناحية العسكرية، فقد تمحورت إستراتيجية النظام حول تفكيك كتائب المعارضة في العاصمة وريفها، ومن ثم التمدد باتجاه طرق الإمداد التي تصل العاصمة بالمحافظات والأرياف، ليصار بعد ذلك إلى وصل الخط الممتد من العاصمة إلى حمص بشكل مترابط وإقفال معابر تهريب السلاح إلى المعارضة من جهة البقاع وشمال لبنان، ومن ثم التوجه لإخضاع المعارضة في حلب.
لكن التقارير العسكرية تشير إلى أن الحملة العسكرية على حمص تواجه مشاكل مستعصية تنذر بانهيارها، ومن أبرز عوامل مظاهر فشل هذه الحملة:
1- عدم سيطرة النظام على المناطق التي يتم إخضاعها من قبل "حزب الله"
تؤكد المصادر أن فرق النظام السوري لم تشارك في حصار القصير أو في اقتحامها، بل اكتفت بعمليات القصف الجوي والإسناد، وأكد قياديون في "حزب الله" أن كتائبه تنفرد في المعارك الدائرة بحمص دون مشاركة فعلية لقوات النظام، وقد نتج عن تلك الحملة ارتفاع شعبية الحزب لدى أبناء القرى الشيعية والعلوية المجاورة لحمص والقصير، وذلك في مقابل تفشي مشاعر السخط تجاه النظام الذي تخلى عنهم مدة سنتين وتركهم تحت رحمة كتائب المعارضة.
فعلى الرغم من أن أبناء تلك القرى قد قاتلوا إلى جانب النظام، وشكلوا جزءاً أساسياً من فرق الشبيحة في بداية الثورة، وقتل منهم أعداد كبيرة في المواجهات؛ إلا أن النظام تخلى عنهم، ولم يتمكن من إمداداهم بالمال والسلاح والذخيرة طوال السنتين الماضيتين إلى أن جاء "حزب الله" ومكنهم من السيطرة على المناطق الحدودية التي تم إخضاعها مؤخراً.
وكان الحزب قد التزم بتسليم المناطق التي سيتم "تطهيرها" إلى جيش النظام؛ إلا أن تقارير ميدانية تؤكد أن الحزب قد عدل عن ذلك الاتفاق بسبب ضعف جيش النظام ومحدودية قدرته على الانتشار في تلك المناطق الوعرة، وأخذ يعتمد على سكان القرى الشيعية والعلوية المجاورة تحت غطاء: "الجيش الشعبي" وذلك بهدف الاستفادة من: "معرفتهم بتلك المناطق وتضاريسها وقدرتهم على حماية الحدود".
وفي مقابل تمكينهم في ريف حمص؛ تدين هذه التشكيلات الحديثة من أبناء الأقليات غربي البلاد بالولاء لقائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني الذي يشرف مباشرة على تنظيم وتجهيز وتسليح فرق "الجيش الشعبي" لتغطية عجز النظام، وخاصة في محافظتي حمص واللاذقية.
وقد أكدت دراسة حديثة صدرت عن "معهد دراسات الحرب" أن النظام لا يسيطر بالفعل على المناطق التي غادرتها المعارضة؛ بل تتولى عملية تأمينها مجموعات محلية جديدة متحالفة مع "حزب الله"، وهي عبارة عن عصابات محلية من الشبيحة تتمتع بحس طائفي ولا تدين بالولاء للنظام بل تشعر بالامتعاض من أن النظام لم يتمكن من حمايتها لمدة تزيد عن سنتين، ولم يتمكن النظام من الوصول إليها إلا من خلال الاستعانة بكتائب الحزب.
وتؤكد الدراسة أن الحزب قد قام بتوطين أعداد كبيرة من أبناء الأقليات في القصير وحمص، وذلك من خلال تشجيع أهالي نحو 23 قرية يقطنها الشيعة والعلويون للاستيطان في المناطق التي تمت السيطرة عليها، وخاصة في القصير حيث تم توطين عدد من أبناء هذه القرى في البيوت التي هجرها سكانها بسبب المعارك، كما تتم إحاطة هذه المناطق بالأسلاك الشائكة والحواجز الإسمنتية، ونشر نقاط التفتيش إضافة إلى تلغيم الحقول المجاورة لمنع السكان الأصليين من العودة إلى ديارهم، في حين يهتم "حزب الله" بتأمين المناطق الحدودية من خلال السيطرة على القرى وإحداث متغيرات ديمغرافية عميقة فيها عبر استخدام العنصر البشري-الطائفي لتوطيد نفوذها في القرى التي تسيطر عليها.
2- عدم سير المعارك وفق ما كان مخططاً لها
تشير مصادر عسكرية غربية إلى أن حملة النظام لا تسير وفق ما كان مخططاً لها، ولا تزال عاجزة عن تحقيق أهدافها، فقد كان من المخطط أن يسيطر الحزب على حمص في حملة خاطفة بعد اجتياح القصير ومن ثم الانطلاق باتجاه حلب لإخراج قوى المعارضة منها، لكن القوات الغازية واجهت مقاومة شرسة في حمص، ولم تتمكن من اجتياحها وفق الخطة الزمنية المتوقعة.
وعلى الرغم من القصف العشوائي المكثف على أحياء حمص القديمة؛ إلا أن كتائب المعارضة لا تزال صامدة فيها حتى اليوم، في حين ترابط كتائب أخرى في مناطق مجاورة للمدينة، ولا تزال العديد من مدن المحافظة وقراها تخضع لسيطرة المعارضة وخاصة في الرستن وتلبيسة.
وتبلغ مشاعر السخط ذروتها في نبل والزهراء؛ حيث تشعر كتائب المعارضة بالمرارة من ادعاء النظام نيته شن حملة لتحرير القوى الموالية له هناك، وتبين بعد ذلك أن هذه الادعاءات لم تكن سوى حيلة لجأ إليها النظام للتمويه عن حملة حمص، في حين ترك الموالين له هناك ليواجهوا مصيرهم منفردين بعد أن تخلى عنهم النظام للمرة الثانية دون دعم أو إسناد.
وكان النظام قد أعلن في شهر يونيو عزمه شن حملة حاسمة في حلب بعد السيطرة على القصير إلا أن فرص تشكيل هذه الحملة لا تزال ضئيلة في ظل الخسائر التي يواجهها النظام في محافظات: الرقة واللاذقية ودرعا، في حين لا يزال النظام عاجزاً عن إخماد المعارضة في دمشق وريفها.
ولا تبدو في الأفق أية مؤشرات على قدرة النظام شن حملة عسكرية شاملة في حلب، كما أنه لا توجد حشود عسكرية تشير إلى وجود توجهات لحملة كبيرة في الشمال، وتؤكد مصادر غربية عسكرية أن عمليات "حزب الله" وجيش النظام لن تتمكن من الاتجاه إلى حلب بعد عمليات القصير وحمص، إذ إن الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية الأمريكية لا تدل على حشود كبيرة للجيش السوري وحلفائه في محيط مدينة حلب، وستتطلب عملية التحضير لمثل هذه الحملة وقتاً طويلاً وإمكانات لا تتوفر لدى النظام في الوقت الحالي.
وبعد مرور ثلاثة أشهر من السيطرة على القصير لا تزال قوات النظام تخوض حملة شرسة للسيطرة على أحياء حمص القديمة مع إنجازات محدودة للغاية مقارنة بما كان متوقعاً، ولا تزال كتائب المعارضة ثابتة في مواقعها مما أثار دهشة وإعجاب المراقبين العسكريين الذين كانوا يتوقعون نجاح إستراتيجية الحزب التي اعتمدها في القصير، بل إن مصادر "حزب الله" تؤكد أن عمليات تهريب الأسلحة إلى كتائب المعارضة لا تزال جارية على قدم وساق، مما ينذر بفشل سياسة الاعتماد على فرق "الجيش الشعبي" حديثة التشكيل، خاصة وأن قوى النظام لا تستطيع سد الحاجة المطلوبة من المقاتلين لحراسة الحدود ووقف تدفق الأسلحة إلى المعارضة من لبنان.
3- إشكالية غياب العمق الإستراتيجي لدى "حزب الله":
في دراسة حديثة له؛ رأى الباحث توني بدران أن الهدف من حملة "حزب الله" غربي سوريا لا يتعدى مهمة تأسيس جيب آمن على طول الحدود الشرقية للبنان وذلك لتأمين معابر الإمداد لحزب الله، وتعزيز سيطرة النظام على دمشق وريفها، ولا توجد مؤشرات لنيتها التوجه نحو حلب وريفها، ونقل الكاتب عن مصادر مقربة من الحزب أن الوجهة التالية للعمليات ستتمركز حول الزبداني وسرغايا ومحيطهما في المرحلة القادمة، وذلك بالتزامن مع حركة تهجير للسكان المحليين وتوطين عناصر موالية للنظام وللحزب من الشبيحة مع عائلاتهم في تلك المناطق لتأمينها على المدى المتوسط والبعيد.
ويمكن القول أن الحملة الحالية في حمص تهدف إلى تأمين المنطقة الوسطى لضمان التحكم بشبكة الطرق بين شمال سوريا حيث مدينة حلب والعاصمة دمشق، فضلاً عن التواصل مع البادية عبر تدمر والتواصل مع الخارج عبر لبنان، وفيها أيضا الكثير من البلدات والقرى المؤيدة للنظام خصوصاً في الريف الغربي الذي يعتبر خزاناً بشرياً للنظام، كما تمثل هذه المنطقة المعبر الرئيس لكل مناطق الساحل السوري.
لكن قيادة الحزب تعاني في حملتها العسكرية من مشاكل مستعصية لعل أبرزها هو عجز الجناح العسكري للحزب عن توسيع نطاق عملياته في الداخل السوري، إذ إن أي امتداد باتجاه الشرق سيجعل كتائب الحزب بعيدة عن مراكز إمدادها في لبنان، ولاتثق القيادة العسكرية للحزب بقدرة النظام على توفير الدعم والإسناد في حلب وحوران، فضلاً عن المحافظات الواقعة شرقي البلاد، خاصة وأن الحزب قد تكبد خسائر فادحة في الأرواح في دمشق وحلب نتيجة لانكشاف النظام واستمرار ظاهرة التسريبات الأمنية التي تتيح لكتائب المعارضة استهداف العناصر الإيرانية والعراقية واللبنانية بدقة متناهية في دمشق وحلب.
وفي الوقت ذاته فإن فرق "الجيش الشعبي" التي شكلها قاسم سليماني في القرى الموالية للنظام غربي البلاد لم تظهر أي كفاءة في تأمين الحدود ومنع تهريب الأسلحة إلى المعارضة، ولم تتمكن هذه الكتائب من الدفاع عن قرى اللاذقية التي تهاوت الواحدة منها بعد الأخرى أمام تقدم كتائب المعارضة في الأيام الماضية، وبالتالي فإن أي محاولة للتقدم في تلك المناطق ستجعل عناصر الحزب مكشوفة بالكامل إذ ما قررت التوغل في الداخل السوري لدعم جيش النظام خارج إطار خطة السيطرة على حمص ووصلها مع دمشق.
4- صعوبة خوض النظام معارك في جبهتين:
أشارت دراسة لمعهد "دراسات الحرب" أن تقدم النظام في جبهة حمص وتراجعه في كل من الرقة وحلب واللاذقية وحوران؛ يعكس عجزاً واضحاً لدى النظام في القدرة على شن عدة حملات عسكرية في آن واحد، بل تؤكد عمليات رصد سير المعارك في الأشهر الستة الماضية أن النظام يحتاج إلى التوقف لفترة معينة بعد كل حملة عسكرية كبيرة، وذلك بهدف إعادة التموضع والتشكيل، والعمل على تأمين سيطرته في المناطق التي يخضعها لسيطرته.
وأشارت الدراسة إلى ظهور ضعف النظام في دمشق أثناء العمليات في حمص، في حين توقفت جبهة حلب وبدأت قوات النظام تتراجع في بعض أحياء المدينة، وذلك بسبب قيام النظام بسحب كتائبه من حلب للمشاركة في العمليات بحمص، مما يؤكد أن النظام لا يتمتع بالجهوزية الكافية لبسط سيطرته في حلب في ظل وجود جبهات أخرى، خاصة وأن قوات النظام تخشى من فقدان سيطرتها على القصير وحمص إذا غادرت قواتها.
فبعد مرور ما يزيد عن ستة أشهر من الحملة لا تزال أجزاء شاسعة من حمص تحت سيطرة كتائب المعارضة التي نجحت في استعادة عدد كبير من القرى في حملة "قادمون"، كما تنذر تطورات الوضع باشتعال جبهة جديدة في إدلب وحماة، في حين تحقق المعارضة اختراقات كبيرة ومفاجئة في العاصمة دمشق.
* موقف الدول الغربية من المعارك الدائرة في حمص:
تحدثت مصادر أمنية فرنسية عن حصول الجيش الحر على صواريخ أرض-جو حديثة، وصواريخ مضادة للدروع روسية الصنع من طراز (Anti Tank Concours-ATGM) يصل مداها لأربعة كلم وقناصة عالية الدقة من طراز (M-40)، لكن هذه الشحنات جاءت عبر ليبيا بتمويل بعض الدول العربية.
أما نداءات رئيس أركان القيادة المشتركة للجيش الحر والدبلوماسية الحثيثة التي قام بها الائتلاف لإنقاذ حمص فقد لاقت آذاناً صماء في الغرب، وتسود القناعة لدى المعارضين السوريين أن الإدارة الأمريكية وحلفاءها في أوروبا ينظرون إلى إمكانية سقوط حمص بيد النظام باعتبارها: "خطوة نحو القبول بالتحاور مع النظام".
في هذه الأثناء بدأت مراكز الفكر الغربية تردد دعوات عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر إلى تقسيم البلاد على أسس إثنية وطائفية؛ حيث قال في محاضرة ألقاها مؤخراً في مدرسة: "جيرالد فورد للسياسة العامة" التابعة لجامعة ميتشيغان حول مآل الثورة السورية: "هنالك ثلاث نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معاً، ولكن في مناطق مستقلة ذاتياً على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض، هذه هي النتيجة التي أفضّل رؤيتها تتحقق".
وأضاف كيسنجر: "تصور الصحافة الأمريكية الحرب في سورية وكأنها نزاع بين الديمقراطية والدكتاتورية، حيث يقتل الدكتاتور شعبه ومن واجبنا معاقبته، لكنّ الحال في مجملها هي نزاع إثني وطائفي، ويتوجب عليّ القول إننا أسأنا فهمها منذ البداية"!
والحقيقة هي أن تقييم كيسنجر للوضع السوري بهذه الصورة التفيتية المقيتة لا ينبع من هواجس ذاتية لدى وزير الخارجية الأسبق، بل تأتي ضمن مراجعات تجريها مراكز الفكر الغربية وبعض الحكومات العربية التي بدأت تدعو علناً إلى مواجهة المد الديني المتنامي لدى القوى الثورية والمحافظة على النظام للاستفادة منه في ترتيبات الوضع النهائي الذي يمكن أن يسفر عنه مؤتمر "جنيف2"، وتمثل تل أبيب القوة الدافعة لمثل هذا الطرح؛ إذ إنها تفضل بقاء النظام ضعيفاً على تخومها بدلاً من ظهور جار جديد تهيمن عليه النزعة الدينية التي تهدد أمن "إسرائيل".
ومع اقتراب عقد مؤتمر جنيف المرتقب تشهد المنطقة اهتماماً غير مسبوق بمحاولات إعادة رسم خارطة القوى في سوريا، حيث يهيمن في العواصم الغربية وبعض العواصم العربية سيناريو تسليم حمص للنظام مقابل إعلان فض الاشتباك على أساس: رقعة شمالية وشرقية تسيطر عليها المعارضة في حلب بالتعاون مع تركيا، مقابل الاعتراف الدولي بسيطرة النظام على دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس بالتفاهم مع موسكو وطهران، بالإضافة إلى إنشاء جيب جنوبي يشمل الجولان وحوران وجبل العرب لحماية الحدود مع الأردن و"إسرائيل".
لكن صمود كتائب المعارضة في حمص وريف دمشق قد أربك هذه الحسابات مما دفع بموسكو للحديث عن شكوكها في إمكانية عقد مؤتمر "جنيف2" في شهر سبتمبر، إذ يبدو أن الحملة الروسية-الإيرانية تواجه مشاكل مستعصية ولم تتمكن حتى الآن من تأمين الرقعة التي يفترض أن يسيطر النظام عليها وفق الخارطة الجديدة لتوزيع القوى في المنطقة.
وقد كشفت بعض المصادر الأمنية في 12 أغسطس الجاري عن وجود ترتيبات غربية تدعمها بعض العواصم العربية للوضع النهائي في المنطقة الجنوبية من سوريا بصورة تمنع النظام والكتائب ذات التوجه الإسلامي من السيطرة في تلك المناطق على حد سواء، وذلك من خلال نشر تشكيلات جديدة من الجيش الحر تدين بالولاء للقوى الداعمة لهذا المشروع.
وتذكر هذه المصادر أن رئيس الأركان الأمريكي مارتن ديمبسي بات مقتنعاً بهذه التريبات التي تتضمن الإعلان عن منطقة حظر جوي جنوب البلاد بالتزامن مع تشكيل منطقة عازلة بعمق 40 كم، وإعلان درعا عاصمة لتلك المنطقة العازلة تتمركز فيها قوة تتألف من 3000 مقاتل تتبع للائتلاف، ويمكن أن تسند إلى كتائب درزية مهمة السيطرة على المناطق الإستراتيجية في جبل العرب.
وتشير مصادر أخرى إلى وجود نشاط مكثف للدبلوماسية العربية والغربية في عمّان بهدف تنفيذ هذه الخطة؛ مع ضلوع بعض القوى الخليجية التي ترى في بقاء النظام وإضعاف كتائب المعارضة ذات التوجه الإسلامي مصلحة إستراتيجية تتماهى مع التطورات الإقليمية.
لكن المعضلة الرئيسة تكمن في بقاء حمص عصية على النظام وعلى القوى التي تريد تسليم المدينة نظير صفقة دبلوماسية يتم التحضير لها في مؤتمر "جنيف2".
وتبقى اليد الطولى لقوى الثورة التي تملك العمق الإستراتيجي في سائر أنحاء القطر السوري في حين يضمحل نفوذ النظام، وتعجز الحملة التي تف خلفها موسكو وطهران عن تحقيق أي إنجاز يذكر على الأرض.
وقد أثبتت حالة الإرباك الناتجة عن حملة المعارضة في اللاذقية أن القوة الحقيقية تكمن في التوصل إلى صيغة سورية محضة تسهم فيها مختلف قوى الثورة التي تمثل العمق الإستراتيجي في المعادلة السياسية والعسكرية على حد سواء.
ولا بد من تذكير من يتحدث باسم الثورة في قيادة الجيش الحر والائتلاف الوطني أن شرعيتهم ومصدر قوتهم يكمن في التواصل مع مختلف القوى الثورية والتأليف فيما بينها، لا في الركون إلى الدبلوماسية الخادعة ومحاولة إبرام صفقات جانبية مع قوى خارجية ترى مصلحتها في تقسيم البلاد.