تركيا مستهدفة بسبب إقدامها على تغيير النظام التقليدي في المنطقة
تركيا مستهدفة
بسبب إقدامها على تغيير النظام التقليدي في المنطقة
ياوز أجار
أعتقد بأن اختطاف طيارين تركيين في لبنان وهما في طريقهما إلى الفندق في العاصمة اللبنانية بيروت على متن حافلة تابعة للخطوط الجوية التركية ليس من قبيل العمليات الإرهابية العادية، وإنما هو امتداد ونظير للهجوم الإرهابي الذي استهدف أحد المباني التابعة لمقر السفارة التركية في العاصمة الصومالية مقديشو، وأسفر عن استشهاد 6 أشخاص وإصابة العشرات بجروح. فكلتا هاتين العمليتين الإرهابيتين تحملان رسالة سياسية موجّهة إلى تركيا مفادها "اخرجي من الشرق الأوسط".
وقبل مضيّ أقل من يوم، أعلنت مجموعة شيعية تطلق على نفسها "زوار الإمام الرضا" عن تبنيها عملية الاختطاف، وطالبت بإطلاق سراح الرهائن اللبنانيين التسعة المختطفين في سوريا مقابل الإفراج عن الطيارين التركيين. غير أن الأمر ليس عبارة عن هذا على الإطلاق، بل له أبعاد أخرى.
وفي هذا السياق، علينا أن نتذكّر مرة أخرى بأن الغرب أعاد رسم خارطة الشرق الأوسط بعد انهيار الدولة العثمانية انطلاقًا من الاعتبارات المختلفة، وفضّل إدارة المنطقة عبر الامتدادات التابعة له بدلاً من الإدارة المباشرة، سعيًا لتخفيض التكلفة وهربًا من إثارة غضب الشعوب ومقاومتها.
الركائز الثلاث للنظام الشرق أوسطي
وكما فصّل الخبير التركي في الشؤون الأمنية "سدات لاجينر"، فإن الدول التي انتصرت في الحربين العالميتين ورسمت خارطة منطقة الشرق الأوسط، بنت الأنظمةَ الحاكمة فيها على ثلاث ركائز أساسية تعتمد وجودها على وجود الأخرى، ويغذّي بعضها بعضًا. وهذه الركائز الثلاث هي الرهاب أو الخوف العربي من إيران، والقضية الفلسطينية، والمنافسات والصراعات الطائفية.
قطع الشعب التركي شوطًا كبيرًا في المسيرة الديمقراطية بعد صراع طويل مع القوى الانقلابية في البلاد، وبدأ ينجو من العهود المظلمة، إلى أن وصل حزب العدالة والتنمية بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم، كنتيجة طبيعية لأرضية ساهمت في إعدادها كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والجماعات الإسلامية. وبدأت تنفتح على محيطها القريب والبعيد عن طريق العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية كوريث لدولة كالدولة العثمانية التي حكمت العالم طوال القرون الطويلة، بعد أن كانت منغلقة على ذاتها وغافلة عن مقوماتها الذاتية وقوتها الناعمة. فأخذت تبذل جهودها لتغيير الشرق الأوسط القديم القائم على الصراعات المختلفة والاستقطابات المتنوّعة بعد عام 2002، وبدأت تبرز كقوة إقليمية في المنطقة. وكان من الصعوبة بمكان صمود الشرق الأوسط "القديم" أمام رياح التغيير ما دامت هي تحقّق ذلك عبر "قوتها الناعمة"، وزيادة قنوات اتصال مع الدول المجاورة وشعوبها، وتطوير العلاقات التجارية المشتركة وتعزيز التعاون الثنائي في كل المجالات.
غير أن الغرب اعتبر هذه التطورات تحدّيًا لنظامه الذي بناه في الشرق الأوسط، ومن شأنها أن تغيّر الموازين الإقليمية التي أسسها على أساس استنفاد قوة العالم الإسلامي عبر القوى المتصارعة فيما بينها، وعلى رأسها الصراع التاريخي بين السنة والشيعة. ولا بد من التنبيه في هذا المضمار إلى أن الخطأ الذي ارتكبته تركيا وهي تسعى إلى تغيير الشرق الأوسط القديم هو أنها لم تقدّر كما ينبغي مدى وأبعاد المقاومة التي سيبديها أصحاب النظام الشرق أوسطى المقام قبل قرن كامل، إذ من غير الممكن تبديل نظام بجديد في الوقت الذي يستمر فيه النظام القديم بكل مظاهره، ولا يتخلّى أي حاكم عن سلطته وموقفه بسهولة ليحلّ محله حاكم آخر.
أمريكا وبريطانيا وفرنسا هي من تحوز ملكية المنطقة
وإن ألقينا نظرة على النظام السائد في الشرق الأوسط نلاحظ أنه بني وحدّدت معالمه من قبل البريطانيين والفرنسيين. ومن ثم حلّ الأمريكيون محلهم مع مرور الزمن. وعلى الرغم من أن روسيا حاولت بسط سيطرتها ونفوذها على المنطقة أيام الحرب الباردة، إلا أن النظام ظلّ أنجلو- أمريكيًّا في جوهره. فهذا النظام المصطنع يقوم على ثلاث رئكائز أساسية، أولاها رهاب وخوف العالم العربي من إيران؛ فالأخيرة هي الدولة الأكثر إثارة للخوف لدى الدول الخليجية، قبل حدوث الثورة "الإسلامية" وبعدها على حد سواء. وبسبب هذا الخوف، فإن العرب سلّموا أنفسهم وزمام أمورهم للدول الغربية.
أما الركيزة الثانية، أو المصدر الآخر الذي يغذّي هذا النظام، فهو القضية الفلسطينية؛ فالصراع المستمر بين العرب وإسرائيل منذ عقود، لم يوحّد، خلافًا للاعتقاد الشائع بين الناس، صفوف العرب وكلمتهم، بل دفع بهم إلى دعوة الدول الغربية إلى المنطقة دائمًا بسبب هذه المشكلة المتفاقمة طيلة العقود الأخيرة.
وأما الركيزة الثالثة التي يستند إليها النظام الشرق أوسطي وتضمن تشتيت شمل شعوب المنطقة وتفريق كلمتها فهي المنافسات والصراعات الطائفية؛ فانعدام الثقة بين السنة والشيعة، بل العداوة التي يكنّ الطرفان لبعضهما البعض، كما أنها تعوق التحرّك المشترك وتحول دون اتخاذ موقف موحّد، كذلك تشكّل ذريعة ومطية لركوب القوى الخارجية عليها لدخول المنطقة والتدخّل في شؤونها.
الاتفاق السري بين إيران والغرب
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال حول طبيعة العلاقات الغربية الإيرانية... إذ كيف تكون طهران إحدى الركائز الثلاث للنظام الذي أقامه أعداؤها في المنطقة؟! وللرد على هذا السؤال ندرج أدناه ما كتبه الصحفي السوري الشهير "فيصل القاسم" بهذا الصدد: "دعكم من النغمة العدائية التي تظهر أحياناً في وسائل الإعلام الغربية ضد إيران. ففي السياسة ليس المهم ما تسمعه، بل ما تراه يتحقق على أرض الواقع. ولو نظرنا إلى الإنجازات التي تحققها إيران في المنطقة على حساب الآخرين، وبمباركة غربية وأمريكية تحديداً، لوجدناها إنجازات كبرى وتاريخية بكل المقاييس. فلا تغرنكم البلهلوانيات الأمريكية الإعلامية والسياسية ضد إيران، فقد ذكر أحد كبار الخبراء الإستراتيجيين الأمريكيين في بحث إستراتيجي قبل أكثر من عقد من الزمان وفي خضم الهيجان الإعلامي الأميركي ضد إيران أن "أهم حدث في بداية القرن الحادي والعشرين هو التحالف الأميركي الإيراني". ولو نظرنا إلى تطورات الأحداث في المنطقة منذ بداية القرن الحالي لوجدنا ذلك التحالف يتجلى في أكثر من مكان خلف ستار شفاف من العداء الغربي المفتعل والمبرمج لذر الرماد في عيون العرب والمسلمين الآخرين في المنطقة، ومنهم تركيا طبعًا... فهناك ما يشبه الإجماع بين القوى الكبرى في الشرق والغرب على تقوية إيران ودعمها على حساب القوى الأخرى في المنطقة، رغم أن بلداً سنياً مهماً كتركيا هو عضو في حلف الناتو. ولا نقول هذا الكلام جزافًا، فلو نظرنا إلى التمدد الإيراني في الشرق الأوسط على حساب تركيا والعرب لوجدنا أنه يتوسع بشكل لا تخطئه عين."
الدول المستاءة من تغيير النظام التقليدي في المنطقة
وعندما بادرت تركيا إلى تغيير الشرق الأوسط القديم عن طريق العلاقات التجارية والثقافية وقنوات التواصل السياسي أصبحت كل من إيران وإسرائيل الأكثر انزعاجًا واستياءً من ذلك، بالإضافة إلى أن هذه التطوّرات الأخيرة أقلقت إلى درجة قصوى – وبدون شك – الدول المهيمنة التي تحكم المنطقة على سبيل الحقيقة من وراء الستار.
وقد تواصلت الجهود التركية الرامية إلى تغيير المنطقة بمشاركة وتعاون جميع الدول اللاعبة فيها بدون نشوب أي مشكلة تذكر حتى عام 2008، أي حتى الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في فلسطين. ولكن بعد هذا العام ومع المشادة الكلامية التي دارت بين أردوغان وبيريز في "دافوس"، والاعتداء الإسرائيلي على سفينة "مافي مرمرة" بلغت الأزمة بين الطرفين ذروتها، واتخذت إسرائيل بعد ذلك موقفًا مضادًّا من هذه المبادرة التركية في المنطقة.
أما علاقات تركيا مع إيران؛ القوة الأخرى التي قاومت أي تغيير في النظام القديم للشرق الأوسط، فأخذت في التدهور مع انطلاق ثورات الربيع العربي. وعلى الرغم من أن كلاً من تركيا وإيران يبدو وكأنهما تبذلان جهودًا حتى لا تنقطع العلاقات بينهما تمامًا، غير أن إيران تعمل خلف الستار على تقويض المصالح التركية في كل أنحاء المنطقة، بدءًا من القضية الإرهابية المتمثلة في منظمة حزب العمال الكردستاني، وانتهاءً إلى سوريا، ومن مصر إلى اليمن.
فقد أظهر ما شاهدناه في السنوات الأخيرة من التطورات التي حدثت في دول "الربيع العربي"، أن إرادة تركيا وضْع سياسة بديلة ومستقلة في الداخل ومنطقة الشرق الأوسط أثارت إلى حد بعيد قلق ومخاوف من يحوزون ملكية هذا النظام أيضًا. وهذا هو السبب الذي يقف وراء بقاء تركيا وحيدة في كل من مصر عقب الانقلاب العسكري، وسوريا بعد الانتفاضات الشعبية، والعراق إثر الانسحاب الأمريكي وفسح المجال لإيران لتملأ الفراغ الحاصل منه؛ لأنهم لا يريدون لتركيا أن تتدخّل في شؤون المنطقة إلى هذه الدرجة.
لا شكّ أن تركيا طالما ألحّت على التغيير في منطقة الشرق الأوسط سيحاول البعض فرض عزلة ومقاطعة سياسية عليها على الساحة الإقليمية والعالمية، وإخراجها عن دائرة اللعبة، كما رأينا ذلك بوضوح في الهجوم الإرهابي الذي استهدف أحد المباني الملحقة بالسفارة التركية في العاصمة الصومالية مقديشو، وكذلك اختطاف الطيارين التركيين في لبنان من قبل مجموعة شيعية، ولا يمكن النظر إليهما باعتبارهما هجومين عاديين نفّذتهما منظمات إرهابية فجسب، بل تكمن وراءه رسالة لتركيا مفادها "سدّدي خطاك، ولا تقفي عثرة في طريقنا!"