الشرعية بين شرعية الشرع وشرعية العقل
جواد عبد المحسن الهشلمون
أن الشرعية بإيجازهي (ممارسة للسلطة بالحق)فالسؤال المطوب له جواب,من اين يأتي هذا الحق ومن الذي يعطيه للحاكم حتى يصبح حكمه شرعيا...؟ والجواب هو اما ان تكون هذه الشرعية مستمدة من اصل شرعي انزله الله او من اصل عقل بشري,وشرح هذه القضية ماكس فيبر وهو احد مؤسسي علم الاجتماع الحديث في كتابه الشهير"السياسة كمهنة" فقال عن الدولة: بأنها الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية,وقد قدم الإسهام الأساسي في فهم الشرعية كظاهرة اجتماعية حيث حدد ثلاثة أنواع من الشرعية السياسية وهي : السلطة التقليدية ( القائمة على التاريخ والعادات)كما كان الامر في اوروبا الملكية وبريطانيا حاليا, والسلطة الكاريزمية ( القائمة على قوة الشخصية للحاكم)كما كان الحال مع هتلر وستالين وعبد الناصروما فعلوه في شعوبهم مستندين لقوة شخصيتهم وتعلق الناس بهم ، والسلطة الرئيسية القانونية ( المستندة إلى إطار من القواعد الرسمية القانونية والشرعية)كما هو الحال في امريكا وما كان عليه الامر في دولة الخلافة وما سيكون عليه الحال في دولة الخلافة الثانية باذن الله.
اما الشرعية المستمدة من اصل شرعي: فإنَّ أصول السياسة الشرعية - وإن تعدَّدَت طرائق استنباطها واشتهر تعليل أحكامها بتلك الطرائق ، هي ذاتها أصول الشريعة الإسلامية وفقهها والتي هي (الكتاب و السنـة الأقوال والأفعال والتقريرات الثابتة عن النبي والاجماع والقياس.
واما مصادر السياسات الوضعية:فانها تختلف باختلاف تلك السياسات ، وما نشأت فيه من مجتمعات ، تبعاً للظروف الخاصة المحيطة بكل منها ,وقد حصرها بعض من ألَّف في القوانين الوضعية ، في مصدرين رئيسيين :1 العـرف وهو : " دَرْجُ النَّاس على قاعدة معيَّنة واتباعهم إيَّاها في شؤون حياتهم وشعورهم بضرورة احترامها "أو هو باختصار : الممارسة الدستورية ، المقبولة عند أهلها كالقانون,وهو ما يعرف بـ( الدساتير العرفية ) أي : التي مصدرها ( العرف ) ، فهي نتيجة تقاليد لم تلْق اعتراضاً من نصٍّ سابق ؛ وترجع طريقة صدوره إليه .
2 _ ( الدساتير المكتوبة ) او(القواعد الدستورية المدونة)، فعند ابتداء وضع هذا النوع من الدساتير ، يكون العرف مصدراً رئيساً يرجع إليه في وضعه كونه ينشأ إلى جانب ( الدساتير المكتوبة ) ، وتُكَوَّن منه قواعد دستورية ، تُعرف بـ( العرف الدستوري )وذلك مثل وثيقة الماجنا كارتا وهي وثيقة إنجليزية صدرت لأول مرة عام 1215م. ثم صدرت مرة أخرى في القرن الثالث عشر ولكن بنسخة ذات أحكام أقل، حيث ألغيت بعض الأحكام المؤقتة الموجودة في النسخة الأولى، خصوصاً تلك الأحكام التي توجه تهديدات صريحة إلى سلطة الحاكم وقد اعتمدت هذه الوثيقة قانونًا عام 1225م وما تزال النسخة التي صدرت عام 1297م ضمن كتب لوائح الأنظمة الداخلية لـ إنجلترا وويلز حتى الآن.
لقد أصبحت الشرعية في واقعنا المعاصر هي الاجتماع على الانتساب إلى غير شرع الله والتولي بولاية غير ولاية الإسلام ،وأصبح للقائمين على النظم العلمانية شرعية الحكم والوضع وكل من خرج ورفض القوانين العلمانية الوضعية الوضيعة وطالب بالحكم بما أنزل الله أصبح لا شرعية له واعتبر في النظم العلمانية "كيان غير شرعي" سواء حزب او دولة, ويتسع الأمر أكثر من ذلك فتصبح هناك" الشرعية الدولية"والتي نشأت عقب حصار المسلمين لفينا باسم(الاسرة النصرانية)ثم تطورت شيئا فشيئا فشملت اوروبا اولا ثم استغرقت اغلب الدول حين تم انشاء عصبة الامم واصبحت كل دولة أو نظام يرفض أو يحاول رفض تلك الشرعية الدولية المفروضة دولة مارقة خارجة عن الشرعية الدولية وتستحق هذه الدولة أو هذا النظام الحصار المفروض عليها من قبل المجتمع الدولي صاحب الشرعية الدولية والتي يمنحها لمن يوافق خططه ويعين من هو الممثل الشرعي (والوحيد) لهذه الثورة او تلك ،ونجد أن البعض يرفض التحاور مع الاتجاهات الإسلامية بحجة أنها كيان غير شرعي،ومن هنا وجب علينا رفع الالتباس عن مفهوم (الشرعية)حتى لا يكون هناك مزيد من خلط الأوراق أو الى مزيد من بعثرة الجهود نتيجة عدم تصحيح المفاهيم.
لقد عد مفهوم "الشرعية أحد المفاهيم الأساسية في العلوم السياسية و إذا كان الأصل العربي للمفهوم يوحي بارتباطه بشكل مباشر بالاتفاق مع "الشرع" ، فإن الأصل الأجنبي لا يبتعد عن ذات المعنى كثيرا ، و إن كان يساعد في الكشف عن تعدد المصادر الرضائية ( أي التي يرتضيها الناس) كأساس للشرعية
ويرجع الأصل اللاتيني لكلمة الشرعية بمعنى " خلع الصفة القانونية على شيء ما" وتضفي الشرعية طابعاً ملزماً على أي أمر أو توجيه و من ثم تحول القوة إلى سلطة، وتختلف الشرعية عن المشروعية في أن الأخيرة لا تكفل بالضرورة تمتع الحكومة بالاحترام أو اعتراف المواطنين بواجب الطاعة, فالمشروعية بهذا المعنى مشتقة من التوافق مع القانون أو اتباعه ، أما الشرعية فهي الأصل الذي يفترض أن يستند إليه القانون (و من ثم المشروعية)ومثاله ان ابا بكر رضي الله عنه قد اخذ البيعة بالطريقة الشرعية فاصبح حاكما شرعيا,فقال(أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني)فاي تصرف يخالف الشرع(الدستور)ان فعله صاحب الشرعية فلا مشروعية لهذا الفعل او هذا التبني,ومثاله عند الراسماليين ان نكسون قد جاء الى الحكم عبر(طريقتهم الشرعية)ولكنه خالف الدستور والقانون عندما تجسس على خصومه السياسيين فخالف فقدم استقالته(وسميت فضيحة ووتر غيت), فشرعية الحاكم امر ومشروعية الاحكام التي يصدرها او الافعال التي يفعلها امر آخر ولا يجوز الخلط بينهما او اعتبارهما امر واحد.
ان استخدام مصطلح الشرعية يختلف بين الفلسفة السياسية والعلوم السياسية فالفلاسفة السياسيون عادة ما ينظرون إلى الشرعية كمبدأ أخلاقي أو عقلاني يشكل القاعدة التي يمكن للحكومة الاعتماد عليها في مطالبة المواطنين بالطاعة في حد ذاتها وفي المقابل يتعامل علماء السياسة مع مفهوم الشرعية كتعبير عن إرادة الامتثال لنظام الحكم بغض النظرعن كيفية تحقق ذلك بالاغراء او بالقهر..
وترتبط قضية الشرعية بواحد من أقدم الجدالات السياسية وأكثرها أهمية وهو الجدل حول مشكلة " الالتزام السياسي" ففي ثنايا تحليلهم لمدى وجوب احترام الدولة وطاعة قوانينها على المواطنين تساؤلات حول توقيت وأسس وكيفية ممارسة الحكومة للسلطة الشرعية في المجتمع بغض النظر عن موالاة او معارضة ويلاحظ أن الدلالات السياسية الحديثة لا تركز على مسألة لماذا ينبغي على الناس أن يطيعوا الدولة على نحو مجرد، بل على قضية سبب طاعتهم لدولة معينة أو نظام معين للحكم والدفاع عنه من كونه يوافق مصالح او مبدأ.
ان الآليات التي توظفها المجتمعات الرأسمالية لتقييد الصراعات وكبح جماحها عبر تصنيع الرضا العام واختلاقه من خلال التوسع في ممارسة الحريات والإصلاح الاجتماعي لجسر الهوة في المجتمع, ومن ثم تصبح الشرعية مرتبطة بمواصلة الهيمنة الأيديولوجية, وفي هذا الإطار طرح مفكرو الماركسية المحدثة مثل (هابرماس) مفهوم "أزمات إضفاء الشرعية أو أزمات الشرعية" في المجتمعات الرأسمالية حيث يضحى من الصعب الحفاظ على الاستقرار السياسي بالاعتماد على الرضا وحده,فكان اصطناع الازمات وايجاد العدولاضفاء الشرعية على انظمة الحكم وافعالها. ويكمن المصدر الأساسي لهذه " النزعات التأزمية" في التناقض المزعوم بين منطق التراكم الرأسمالي من جهة والضغوط الشعبية التي تطلقها السياسات الديمقراطية من جهة أخرى والتي تنعكس سلبا على المجتمع كازمة الرهن العقاري وازمة الشرعية الثورية والدستورية في اليمن وتونس ومصر,والتحجج الدائم ب(الايدي الخفية).
لقد برز مفهوم الشرعية الثورية في الأيام الأولى للثورات العربية كتعبير عن إرادة شعبية موحّدة أو شبة موحّدة لأسقاط الأنظمة القائمة، بما فيها دساتير تلك الأنظمة وأي قانون يعترض طريق الثورة بعدما ذاقوا الامرين من تلك الدساتير, والغريب في الأمر هو أنه رغم القبول العام لهذا المبدأ في فترة بداية الثورة، فقد دخل إلى حيّز النسيان بعد مراحلها الأولى، وتم استبداله بالآليات القانونيّة المعتادة، كالإعلان الدستوري ونظام القضاء كما كان وما زال موجوداً منذ زمن ما قبل الثورة. وإذا نظرنا إلى مصر مثلاً، نرى كيف أن غياب مفهوم الشرعية الثورية عن مشهد المرحلة الإنتقالية، وغياب آليات متفق عليها لوضعه حيّز التنفيذ، هو ما أدّى إلى حالة التخبّط الحالية، وعزز من قدرة السلطات الغير ثورية للتحكّم بالمشهد. فلو كانت الشرعية الثورية هي الفصل الحكم للمرحلة الانتقالية، لما كان بوسع المجلس العسكري ان يخطف الثورة وأن يصدر اعلاناً دستورياً مكملاً ينتقص فيه من صلاحيات السلطات المنتخبة، وما كان بامكان المحكمة الدستورية العليا أن تحل برلماناً منتخباً بأوسع مشاركة شعبية في تاريخ مصر، و تُحدث بذلك القرار فراغاً هائلاً في مرحلة شديدة الحرج من عمرالثورة.
فالشرعية الثورية في روسيا مثلا استمدت شرعيتها من نفسها واعتبرت نفسها فوق القانون والدستور ولا تخضع لاحكام القضاء,وسقط دستور النظام البائد تلقائيا دون الحاجة الى أي اجراء آخر(وهذا ما حصل فعلاً في مصر بعد تنحي مبارك، إذ وافق الجميع حينئذ، بما فيهم المجلس العسكري، أن الدستور المعمول به لم يعد موجوداً) فالدستور القديم يسقط ليس من خلال آليات يحددها هو، ولكن من فعل يأتي من خارجه ويلغيه وهذا الفعل هو الثورة,بمعنى أن أحكام القضاء أو الاعلانات الدستورية الفوقية تُعتبر غير مُلزمة وغير شرعية إذا تناقضت مع شرعية الثورة.
ان مفهوم الشرعية الثورية يستمد قوته من الإجماع ووحدة الإرادة وليس من أي قانون وهذه وصف لحركة جماهيرية ملتهبة ترفض الواقع المفروض وليست محض نظرية،فاستدعي هذا المفهوم لاستغلال المشاعر وسرقة الثورة وحرف للامة عن التفكير بالخلاص الحقيقي والحل الجذري والاكتفاء ب(الاصلاح شكلا), إذ أن مسار الثورة في مصر قد أوضح أن القوى الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وبالتحديد المجلس العسكري، قد تراجعت وقدمت تنازلات إضافية في كل مواجهة رأت فيها أنها تواجه من الامة إرادة مضادة شبة موحّدة وعلى درجة عالية من التصميم.
ان مفهوم الشرعية الثورية هو مفهوم مؤقت واستثنائي، ينتهي بانتهاء الحالة الثورية أو الفترة الانتقالية ولذلك فعندما نتحدث عن الشرعية الثورية وشروطها ونحن في خضمّ الثورة، يجب أن نتذكر أن "الشعب" يريد في النهاية حياة طبيعية وليس ثورة دائمة, وهذه الحالة الثورية تعتري المسلمين وغير المسلمين,وهذه حالة انسانية تعبر عن مخزون القهر والظلم الواقع عليهم,فان كانت غايتهم غير واضحة حين تعتريهم هذه الحالة فالتخبط سيد الموقف عندهم لعدم وجود الهدف الواضح وما تلبث الثورة ان تنجح او تكاد حتى ينقلب الثوار على انفسهم وتاكل الثورة ابناءها وهذا ما نشهده,واما ان كان دستورهم وهدفهم واضح ومحدد ومعلوم كثورة سوريا,فالشرعية للشرع في كل وقت وحين وخلال الثورة وبعدها فليست الحالة الثورية التي تعتري الامة الاسلامية رخصة للمسلمين لمخالفة شرع الله عز وجل.
ان المتتبع لحال الامة اليوم وما كانت علية وما آل اليه حالها ليدرك ان الامة قد كسرت حاجز الخوف الذي اعتراها وان الرجوع الى ما كانت عليه قبل الثورات مستحيل,وان ما كان ينطلي عليها من حيل والاعيب سياسية قد انكشف لها وان الامة اليوم ترنوا للغد,وان ما دفعته من فاتورة دم وتدفعه لن تقبل به الثمن البخس او العيش المهين,والكافر قرأ ووعى هذا الامر جيدا فكان لا بد له من ابتكار اساليب جديدة ليحاول من جديد ادخال الامة في قفصه واعادة برمجتها وحقنها بالاصطلاحات الرنانة المعبرة عن مشاعره فخرجت الى النور من جديد عبر عملائه من الوسط السياسي الذي ركب موجة الثورات هذه الاصطلاحات,وما المهل المتعاقبة والمبعوثون الامميون والمراقبون واصدقاء الشعب السوري الا اشكال متعددة للتواطى لوأد الثورة او حرفها عن مسارها لادراكه خطورة الامر عليه.
ان الأمة الاسلامية قد غزيت بالأفكار الكافرة في السابق كالقومية والوطنية وصورها الكافر بأنها الدسم الذي تحتاج إليه لتستعيد به عافيتها فحكمت سياسياً بحكام نواطير نصبهم على رقاب المسلمين ليتسلط بهم على خيرات الأمة، وليمنع بهم أي عمل مخلص يهدد مصالحه اويشكل خطراً على استعماره وهو اليوم يحاول جاهدا ان يكمل ما بدأه لانه يعي خطورة العمل الجماعي المنظم الذي قامت به الامة بعفويتها على بقائه وتركزه فجاءت هذه الاصطلاحات لخدمة هدفه ،فشرعية وجودهم لم يأخذها من الامة غاشم ولا ملك ولا زعيم والامة لم تعطها لهم ومشروعية قوانينهم وافعالهم وتواطئهم مخالف لعقيدة الامة.
منقول عن : منتدى الزاهد