الحدود في الإسلام.. المقتضيات والظروف
محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة
مما ابتليت به اليوم بعضُ الدول التي تمر بطور التحرر من حِقب الاستبداد، أن تحاول جهات عسكرية أو مدنية - بحسن نية - إقامة الحدود التي شرعها الله، دون أن تعبأ بالظروف الشرعية لتلك العقوبات، الأمر الذي يؤدي إلى نتائجَ أخطرَ من الجرائم التي تقتضي إقامة الحدود، كرفض الناس لأوامر الله، وكراهيتهم للشريعة الإسلامية، والزعم بأنها لا تناسب الزمان الذي نعيش فيه، وأن القوانين الوضعية أنسب منها في مجاراة ظروف زماننا!
يقول القاضي الشهيد عبدالقادر عودة: "إن الحديث من القوانين قد يكون خيراً من القديم إذا قورن ما صنعه الناسُ قديماً بما يصنعه الناسُ اليوم، ولكن الحديث لن يتهيأ له أن يَصِلَ إلى مستوى القديم إذا قورن ما يصنعه الناسُ بما صنعه رَبُّ الناس سبحانه.
وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرورُ الزمن، ولا يُبْلِي جِدَّتَها، ولا يَقتضي تغييرَ قواعدِها العامة ونظرياتها الأساسية، فجاءت نصوصُها من العموم والمرونة، بحيث تحكم كلَّ حالةٍ جديدة ولو لم يكن في الإمكان تَوَقُّعُها".
* * *
وقد أشكل على البعض فهمُ تكريم الله للإنسان وتغليظ ديته ودية أعضائه وأطرافه إذا تعرضت لاعتداء من جهة، والأمر بإنزال عقوبة الحد عليه إذا ارتكب جريمة من جرائم الحدود من جهة أخرى، فنُسِب إلى أبي العلاء المعري قوله:
يَـدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَـتْ
مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبُعِ دِينَارِ؟!
تَنَاقُضٌ مَا لَنَـا إلا السُّكُـوتُ لَـهُ
وأنْ نعــوذ بمـولانـا مِـنَ النَّـارِ
وقد رد عليه الإمام الشافعي بقوله: "لَمَّا كَانَت أَمِينَةً كَانَت ثَمِينَة، وَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ".
كما رد عليه القاضي عبدالوهاب المالكي بقوله:
عِزُّ الأمانةِ أغلاها وأرْخَصَهـا
ذُلُّ الخيانةِ فافهَمْ حِكمةَ الباري
وقال ابن حجر العسقلاني: "وشرحُ ذلك أن الدِّيَةَ لو كانت رُبْعَ دِينَارٍ لَكَثُرَت الجِناياتُ على الأيدي والأطراف، ولو كان نِصابُ القَطْعِ خَمْسَمِئةِ دِينَارٍ لَكَثُرَت الجِناياتُ على الأموال، فَظَهَرت الحِكمةُ في الجانِبَيْن، وكان في ذلك صِيانةٌ من الطرَفَيْن".
* * *
وبحسب فقهاء الشريعة.. "تنقسم الجرائم بحسب جسامة العقوبة المقررة عليها إلى ثلاثة أقسام: جرائم الحدود، وجرائم القِصَاص والدِّيَة، وجرائم التعازير. وجرائم الحدود هي الجرائم المُعاقَبُ عليها بِحَدّ، والحَدُّ هو العقوبة المُقدَّرةُ حَقاً لله تعالى، أي أنها مُحَدَّدة معينة فليس لها حَدٌّ أدنى ولا حَدٌّ أعلى، ولا تقبل الإسقاطَ لا مِن الأفراد ولا من الجماعة.
وتعتبر العقوبة حقاً لله في الشريعة كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهي دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم. وجرائم الحدود مُعَيَّنة ومحدودة العدد، وهي سبعُ جرائم: الزِّنا والقذف والشُّربُ والسَّرِقة والحِرَابة والرِّدَّة والبَغْي". (انظر كتاب: التشريع الجنائي الإسلامي للقاضي الشهيد عبدالقادر عودة).
* * *
ومن المعلوم أن نصوص تحريم جرائم الحدود لم تنزل إلا بعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة النبوية، بل نزل بعضُها بالتدرُّج، كتحريم شرب الخمر، مراعاةً للانتقال الكبير من قيم الجاهلية إلى شريعة الإسلام، بل إن الحدود في الإسلام لم تُقرَّرْ إلا وقد سُدَّت الذرائعُ والثغراتُ المؤدية إلى الجريمة، فلم يكن المقصود بالحدود إقامة العقوبات في مجتمع يعاني الفقرَ والفساد والتمييز وكبت الحُرِّيات، أو في مجتمع خرج للتوِّ من نَيْرِ سلطةٍ غاشمةٍ فاجرةٍ فاسدة، ويعيش في فترةٍ استثنائية يتحرر فيها مِن كل ذلك، وإنما تأتي الحدود وقد استقرَّت الأمور وبُنِيَتْ مؤسساتُ الدولة والمجتمع، وأقيمت الحُجَّةُ على الناس بانتفاء دوافع تلك الجرائم.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يَسأل أحدَ وُلاتِهِ على الأمصار: ما تفعل إذا جاءوك بسارق؟ فيقول: أقطعُ يدَه. فيقول عمر: فإن جاءني من عندك جائعٌ أو عاطلٌ فسوف يقطع عمرُ يَدَك، إن الله استخلفنا على عباده، لنسد جَوْعَتَهُم، ونسترَ عورتهم، ونوفِّرَ لهم حِرْفَتَهم، فإذا أعطيناهم هذه النِّعَمَ تَقاضَيْناهُمْ شُكرَها، يا هذا إن الله خلق الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التَمَسَتْ في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
وهو رضي الله عنه الذي رفع حدَّ السرقة في عام 18 للهجرة، وهو العام المعروف بعام الرَّمادة، وكان عامَ مَجَاعةٍ وقحط، وذلك لوجود شبهةِ الحاجة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَات»، وقوله أيضاً صلى الله عليه وسلم: «لأن يخطئ الإمام في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة»، وهو الذي ترجمه القانونيون اليوم بقولهم: "إن العدالة تتأذى من إدانة بريءٍ واحد، لكنها لا تتأذى من تبرئة مئةِ متهم".
وقد رُوي أن رجلاً جاء بغلام له إلى عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه فقال: اقطع يدَه فإنه سَرَق مِرآةً لامرأتي. فقال عمر: لا قَطْعَ عليه وهو خادمُكم أخذ مَتاعَكم. رواه مالك.
كما درأ الفاروق رضي الله عنه حَدَّ السرقة عن غلمان سرقوا ناقة رجل وأكلوها، وقال لسيدِهم: أراك تُجِيعُهُم. وغَرَّمه ضِعْفَ ثمن الناقة، عقوبة له على تجويع غلمانه وإلجائهم للسرقة.
ومع هذا فلابد من عقوبةٍ تعزيريةٍ تراها الدولة لمن أُسقِطَ عنه الحَدُّ بسبب شبهةٍ، أو لعدم اكتمال أركان الجريمة، وذلك بحسب درجة الجرم ودوافعه.
وفي هذا التشريع الجنائي العادل يقول المفكر الشهيد سيد قطب رحمه الله: "وهكذا ينبغي أن تُفهم حُدودُ الإسلام، في ظِلِّ نِظامِهِ المتكامل، الذي يَضَعُ الضماناتِ للجميع، لا لطبقةٍ على حساب طبقة، والذي يتخذ أسبابَ الوقاية قبل أن يتخذ أسبابَ العقوبة، والذي لا يُعاقِبُ إلا المُعْتَدِين بلا مُبَرِّرٍ للاعتداء".
وقد فتح الإسلامُ بابَ التوبة لمن يرتكب جناية من جنايات الحدود، وأبطل العقوبة إذا تاب الجاني قبل أن تَقدِرَ عليه الدَّولة، فقال تعالى: «إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» المائدة (34).
وروى صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - لَمَّا أمَرَ بقطع يد الذي سَرَق رِدَاءَهُ فَشَفَعَ فيه -: «هَلاَّ كان ذلك قبلَ أنْ تَأتيني به؟». أخرجه أحمد والأربعة.
ولا يشمل ذلك بعضَ الجرائم المتعلقة بالشَّرَف والعِفَّة، كالاغتصاب والقذف، فإن توبة الجاني بمثل هاتين الجريمتين إلى الله لا تُسقط عنه الحدّ، وإن زال عنه الفِسْق.
كما أمر الإسلامُ بالسِّتر وإحسان الظن بالناس، وحَرَّم التجسسَ على أحدٍ لضبطه متلبساً بالجريمة، وشدد في شهادة الزِّنا تشديداً يكاد يكون معه ضَبْطُ زانيين أمراً مستحيلاً.
وفوق هذا كلِّه لم تُمَيِّز الحدودُ في الإسلام بين شريف أو وضيع، فكلاهما أمام القانون السماوي سواء، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا أهْلَكَ النَّاسَ قبلَكُمْ أنهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيهِ الحَدَّ، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لقطَعْتُ يَدَها».
* * *
وحين تكون أوضاع وطن من الأوطان في فترة مَخاض وتحرر من ظلم وطغيان وفسادٍ وفقر وبغي وحرمان، فلابد من مراعاة الرواسب السيئة لتلك الأمراض في جسم المجتمع، ومعالجتها بالحكمة والتدرج، حتى لا تؤدي إقامة حدود الله بشكل مباشر إلى رفض الناس لمجمل أحكام الله تعالى.
وقد روى التاريخ أن عبد الملك ابن الخليفة الراشد عمرَ بن عبد العزيز حَضَّ والده على الإسراع في إرجاع الحقوق والضرب على أيدي الظلمة والعُصاة بعد أن استُخْلِف، فقال عمر بن عبد العزيز: «لا تَعْجَلْ يا بني! فإن الله ذمَّ الخمرَ في القرآن مرتين وحَرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحْمِلَ الحقَّ على الناس جُمْلة، فيدفعوه جُمْلة، ويكون من ذا فتنة».
فالله الله في الشعوب المُنهَكة.. بَشِّرُوها ولا تنفرُوها، احملوها على الحق برفق، فإن الرِّفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزع منه إلا شانه، حتى يشتد عُودُها، وتقوى عزيمتها، وتبلغ درجة من قوة الإيمان وكفاية الحاجة.. ما يستوجب حينها - وحينها فقط - الضربَ على أيدي العابثين بأمنها وإيمانها، بإقامة حدود الله وفق شروطها، وبميزان العدل والإنصاف الذي أمرنا الله به فقال: «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ» النساء (58)، فمن العدل أن نسد الذرائعَ المؤدية إلى الجرائم، وأن نقيم مبادئ المساواة في الحقوق، وتكافؤ الفرص في العمل والمعيشة وتوزيع الثروة بالعدل بين الناس، قبل أن نقيم الحدود على المتجاوز دون حُجَّةٍ أو عذر.
هكذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدولة الإسلامية الأولى، وفي مجتمع انتقل إلى الإسلام من جاهليةٍ كانت تحكمها قيمٌ سلوكية خيرٌ من تلك التي تحكم جاهليةَ اليوم.
إذاً فنحن بالتدرج في معالجة الأمور أولى، وبالصَّبر والرِّفق في معاملة الناس أحرى.. «وَاللهُ غَالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» يوسف (21).