شعوب العالم تتطلع إلى شعب مصر
م. شاهر أحمد نصر
شهدت البشرية عبر تاريخها الطويل مراحل مفصلية هامة تركت آثارها على تطورها اللاحق، عرفت تلك المراحل بالثورات... ويتفق الباحثون على أن الثورتين الفرنسية، والبلشفية من أبرزها في القرنين المنصرمين... وإذا كان تطور البشرية الاقتصادي الاجتماعي العالمي، والمحلي جعل من فرنسا، ومن روسيا مركزين للثورة في القرنين الثامن عشر وأوائل القرن العشرين، فإن هذا التطور الذي توج بالتطور التقني والمعلوماتي في أواخر القرن العشرين، فضلاً عن الظروف الموضوعية والذاتية الداخلية يجعل من البلدان العربية مركزاً للثورات في مطلع القرن الواحد والعشرين... وهذه لحظة تاريخية من الضروري على العرب وشعوب المنطقة التقاطها، وتحويلها إلى فعل إيجابي يفيدها، ويفيد البشرية جمعاء، في مواجهة التحديات المنتصبة أمامها، وفي تطورها اللاحق. فما الذي يمكن أن يقدمه العرب وشعوب المنطقة في هذه المرحلة التاريخية المصيرية؟!
الربيع العربي فرصة العرب التاريخية
يساهم تطور الأحداث التي اصطلح على تسميتها بالربيع العربي في عودة العرب وشعوب المنطقة إلى لعب دورهم الفاعل في صياغة التاريخ، وتدشين مرحلة بداية التاريخ، بعدما أعلن بعض المفكرين نهايته في أواخر القرن العشرين، بداية يتم فيها استيعاب تجارب البشرية، بما فيها التجارب الثورية، وتجاوزها بتقديم نماذج جديدة في الثورة، وأساليب انتقال الحكم، وابتكار صيغ حكم جديدة تنسجم مع متطلبات العصر... ومن الضروري الانتباه إلى وجود قوى معادية للعرب ولشعوب المنطقة، لا تريد أية نهضة لهذه الشعوب، وستعمل جاهدة وستستخدم كل الإمكانيات المتاحة لها لإجهاض أية محاولة لتقدم وحرية هذه الشعوب، ونأمل أن تكون شعوبنا على مستوى التحدي، وتستثمر هذه الفرصة التاريخية للسير على طريق الحرية، والتقدم، والتنوير الحضاري؟!
وينتصب السؤال المشروع: كيف يتم استيعاب وتجاوز التجارب السابقة، وما هي صيغ الحكم الجديدة المطلوبة التي ستترك آثارها على مستقبل شعوب المنطقة، وعلى التطور الإنساني العام، التي يمكن أن يساهم العرب وشعوب المنطقة في ابتكارها، وإبداعها؟
لقد تجلى أثر الثورتين الفرنسية والبلشفية على التطور العالمي في كثير من الأمور من بينها: الأساليب التي اتبعها الثوريون في عملية استلام الحكم، تلك الأساليب التي قامت شعوب أخرى باستلهامها لاحقاً، والتي يفترض تجاوزها، فضلاً عن الفكر، والمنظومات الحقوقية، والقانونية التي أفرزتها تلك الثورات، والمتعلقة بتنظيم الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحقوق الإنسان، والمرأة، ومسائل العدالة الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، وغيرها من الحقوق المنسجمة مع متطلبات تطور المجتمعات البشرية في القرنين التاسع عشر وبداية القرن العشرين...
ضرورة تجاوز أساليب العنف الدموي:
من المعروف أنّ الأساليب التي اتبعها الثوريون سابقاً، لاستلام الحكم ترافقت مع أعمال عنف دموي كلفت الشعوب الكثير من الضحايا... فقد استمرت الثورة الفرنسية كما هو معروف عشر سنين (منذ عام 1789 ولغاية عام 1799)، ومرت في ثلاث مراحل: خلفت أولاها الكثير من الضحايا.. واتصفت مرحلتها الثانية: بتصاعد التيار الثوري المتشدد، وإعدام الملك لويس السادس عشر، وتحويل فرنسا إلى نظام جمهوري متشدد. وعرفت بداية حكم الإرهاب ـ روبسبير وإعدام الكثيرين، ولم تهدأ أعمال العنف إلاّ مع استتباب مرحلة الثورة الثالثة...
ولم تكن الثورة البلشفية أقل عنفاً وسفكاً للدماء من الثورة الفرنسية؛ إذ يقدر المؤرخون ضحاياها بالملايين من الأنفس البشرية... سجلت في العديد من الأعمال الأدبية، وفي كتب التاريخ... فقد كانت توضع الخطط بعدد الأنفس المطلوب إعدامها ممن أطلق عليهم لقب أعداء الثورة، أو ما يسمى بالطابور الخامس، وأحياناً كان قادة المناطق المحلية يزايدون على قيادة المركز (الستاليني) طالبين زيادة أعداد المسموح لهم بإعدامهم... لقد كلفت أعمال العنف تلك روسيا خسائر فادحة، وجعلت تلك الثورة تحمل بذور نهايتها، ودفعت ثمنها خلال سبعين سنة...
وعلى الرغم من قتامة هذه اللوحة المأساوية تبقى الثورتان الفرنسية والبلشفية علامتين مميزتين في التاريخ العالمي ولهما أفضال كبيرة على شعوب العالم أجمع لا يمكن نكرانها، إنما يقول العقل والمنطق إنّه من الضروري تدارك أخطائهما وأساليب العنف الدموي المكلفة التي مورست خلالهما...
ولادة ثورة تضاهي ثورة اسبارتاكوس
فالأمر الأول الرئيس والضروري للثورات العربية في القرن الواحد والعشرين يكمن في ابتكار أسلوب ثوري سلمي يتلافى تلك الكوارث الناجمة عن إتباع أساليب العنف الدموي، والتي يفترض أن الوعي الإنساني تجاوزها... إنما إذا لم تتمكن الشعوب من ذلك، وإذا لم تتم الاستجابة لمطالبها الشرعية، وتمت مواجهتها بالعنف، وبمعونة قوى خارجية مهما زينت تسميتها، فإن الشرائع السماوية والدنيوية تصون حق الشعوب في الدفاع عن النفس... وتبقى الشعوب هي من يدفع ثمن ذلك الطريق الذي يفرض عليها... وتتجه أنظار وتطلعات وآمال شعوب المنطقة والعالم، وخاصة شعوبنا التواقة إلى الكرامة والحرية، والتي لعبت ثورة الشعب المصري في 25 كانون الثاني (يناير)2011 دوراً في تفجير ثورتها التي تضاهي ثورة سبارتاكوس في كثير من جوانبها الإنسانية، وتجمعت قوى محلية وإقليمية ودولية لإجهاضها أو تشويهها، لأن تلك القوى ليس في صالحها أن تتمتع شعوبنا بالكرامة والحرية... إلاّ أن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء... ولذلك تتجه الأنظار الآن إلى مصر مركز ثقل ثورات القرن الواحد والعشرين، والربيع العربي، وإلى شعب مصر وجيشها لتجنيب البلاد تلك المآسي، وإبداع أسلوب سلمي جديد في انتقال الحكم، سيترك آثاره على جميع شعوب المنطقة، وتستفيد منه جميع شعوب العالم؛ أسلوب يستفيد من تجارب الثورات السابقة، ويتجاوزها، بعيداً عن أساليب العنف الدموي...
أصل المسألة في صيغة الحكم
تترقب شعوب العالم من العرب، وشعوب المنطقة ومفكريها أن تبدع أسساً مبتكرة لنموذج حكم جديد بالاستفادة من تجارب الثورات، والشعوب السابقة، وتجاوزها لينسجم، مع متطلبات التطور التاريخي العام في عصر التغيير والمعلوماتية، من ناحية، ومع متطلبات التنمية والتقدم والعدالة الاجتماعية، ومع خصوصية الفسيفساء الاجتماعية لكل شعب من الشعوب، وخاصة في مرحلة انتقال السلطة، من ناحية ثانية... قد يقول قائل: (لا داعي لاختراع العجلة من جديد) فالدولة المدنية والديمقراطية هي أسلوب الحكم المجرب، والمنسجم مع متطلبات العصر والتطور... ولا حاجة للثوريين في المنطقة أن يبتكروا أمراً آخر...
لا أعتقد أن الخلاف على مفهوم الدولة المدنية، أو على الديمقراطية، إنما على كيفية ممارستها، في هذا العصر عصر المعلوماتية والتغيير المستمر، لتلبي أماني وتطلعات ومتطلبات أبناء المجتمع من جميع الشرائح، وخاصة الشباب، في ممارسة السياسة والحرية والعدالة، هذه هي المعضلة التي تتطلب معالجة...
يثبت تطور الأحداث وجود قصور في معالجة العلاقة ما بين سلطة ما يسمى بالأغلبية الحاكمة والمعارضة، خاصة في المرحلة الانتقالية للحكم في الدول التي لم تمارس الشعوب فيها العمل السياسي لعقود طويلة... ويبين ذلك خطأ استنساخ أساليب الحكم من الدول الأخرى بشكل جامد، وفرض صيغة دستور وقوانين انتخابات، وقوانين التنظيمات السياسية من قبل فئة واحدة بحجة أنّها تشكل الأغلبية، وأن ذلك ينسجم مع المبادئ الديمقراطية في الحكم...
تتطلب المرحلة الانتقالية في البلدان التي لم تعرف الديمقراطية، ولا الحياة السياسية الطبيعية اعتماد الدستور وقوانين الانتخابات وغيرها، بالتوافق، والتحكيم من قبل لجان قانونية دستورية مشهود بنزاهتها... كما أنّه من الضروري إيجاد صيغة في الحكم عند تشكيل الحكومة والجهاز التنفيذي وباقي مؤسسات الدولة تجعل الموالاة والمعارضة فاعلتين فيها، وعدم إقصاء أي طرف بحجة الأغلبية والأقلية... لتقوم الدولة بمسؤولياتها في صالح جميع أبنائها، وليس خدمة لشخص، أو حزب، أو فئة محددة، ولتتحول الدولة إلى مؤسسة احتواء ومعالجة التناقضات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وعدم السماح بتحولها إلى تناقضات تناحرية...
وفي سياق البحث عن صيغ حكم جديدة من المفيد ذكر والتنويه بتجربة نيلسون منديلا، الذي تفوق على لينين في رؤيته السليمة لتنظيم الحكم لصالح الشعب بمجمله (من ملونين وبيض، على الرغم من اضطهاد البيض للملونين طوال عقود من الزمن) وليس لصالح فئة محددة فيه... فبعد انتصار شعب جنوبي أفريقيا على حكم التمييز العنصري، وخروج منديلا من السجن، طالبه مناصروه بإجراء انتخابات مباشرة، والحكم بموجب نتائجها (وفق الأسس الديمقراطية)، إلاّ أنّه رفض ذلك، قائلاً إن إجراء الانتخابات مباشرة بعد انتصار الثورة سيجعلها ذات لون واحد، وستحرم جنوب أفريقيا من مشاركة البيض في الحكم، واقترح مرحلة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، على أن تجرى الانتخابات في نهايتها، بعد نضج الحياة السياسية بشكل عقلاني، والابتعاد عن العصبية الثأرية، مفضلاً أن تحكم جنوب أفريقيا من قبل جميع أبنائها، وليس من قبل حزبه وحده... أما لينين الذي رفع شعار انتخاب الجمعية التأسيسية لسنوات طوال... فقد قام بعد إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية وحصول البلاشفة فيها على نسبة لا تتجاوز 20% بحلها عام 1918، وحرم الحكم في روسيا من رئة ضرورية لتطوره بشكل ديمقراطي سليم... دفع البلاشفة والشعب الروسي ثمنه غالياً... وهذا يؤكد ضرورة الاستفادة من تجربة منديلا، وتطويرها عند وضع صيغة الحكم الجديدة، التي من الضروري أن تبتكرها شعوب المنطقة ومفكروها، لا أن يفرضها بريمر، أو فورد، أو لافروف، أو غيرهم...
ومن الضروري أن تضمن صيغة الحكم الجديدة الحرية والتكافؤ لجميع قوى المجتمع المدني والقوى السياسية القديمة والحديثة العهد، وعدم إقصاء أي فكر، أو تنظيم وطني، قديم، أو حديث، على الرغم من التحفظ على أغلب الأحزاب المعمرة: الشيوعية، والبعثية، والناصرية، والأحزاب الدينية المتنوعة، بما فيها أحزاب الإخوان المسلمين؛ التي مرت بمدارس تنظيمية متشابهة، وتقاطعت ظروف نشأتها، ومناهل تفكيرها، مما يجعلها متشابهة في كثير من الأمور، وفي نظرتها إلى امتلاكها وحدها للحقيقة، وما ينجم عن ذلك من ضيق أفق، وتصور محدود بحقه وحده في امتلاك السلطة... والقصور العميق في مسألة استيعاب متطلبات التطور في عصر المعلوماتية الحديث، مما يجعلها تلعب دوراً معرقلاً في التطور الاجتماعي التاريخي... ولا يمكن لوجهة النظر هذه أن تنفي حق تلك القوى في الوجود، ولا تبرر حرمان أي حزب قديم، أو حديث من حرية العمل السياسي... مع خلق الظروف الملائمة لتشكل قوى سياسية جديدة تنسجم مع تطور الحياة... وهذا يؤكد ضرورة صياغة أساليب وآليات جديدة في الحكم تستوعب جميع القوى السياسية في المجتمع وتعالج جميع التناقضات الاقتصادية والسياسية ومنع وصولها إلى الدرجة التناحرية... وتثبيت ذلك في الشرعة الدستورية والعقد الاجتماعي...
أجل إن شعوبنا أمام تحد تاريخي، وفرصة تاريخية في إعادة صياغة التاريخ، وهذا يتطلب دعم التطلعات الثورية للشعوب العربية، للبدء بالعملية الانتقالية، وتنظيم ورشات عمل فكرية تغتني بجميع القوى السياسية لابتكار صيغة جديدة للحكم تلبي تطلعات الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتحقق إنسانية الإنسان...
إن الأنظار تتجه الآن إلى شعب مصر ومفكريه الذين وقعت على عاتقهم مسؤولية تاريخية يتوقف على نجاحه في تحملها مستقبل شعوب المنطقة بالكامل... فتحية إلى شعب مصر العظيم!
طرطوس 3/7/2013