رسالة مفتوحة إلى مجلس الشورى المنعقد في استانبول
رسالة مفتوحة إلى مجلس الشورى
المنعقد في استانبول
د . فوّاز القاسم / سوريا
للشورى أهمية كبيرة في حيات أمتنا العملية ، لأنها بالإضافة لكونها فضيلة إنسانية ، الطريق السليمة التي يُتوصلُ بها إلى أجود الآراء ، وأنفع الحلول التي تحقق مصلحة الأمة ، لأن العقول كالمصابيح ، إذا اجتمعت تعاضد نورُها ، ووضح السبيل أمام السالكين ، وهي أثر طبيعي لاحترام الإسلام لعقول أبنائه ، كما أنها من أهم مقتضيات تكريم الله للإنسان ، بالإضافة لكونها مظهر من مظاهر العدل والمساواة ، وحريّة الرأي ، والنقد البناء ، والاعتراف بشخصيّة الفرد ، وإحساسه بوجوده وانتمائه إلى أمته ، وهي الطريق الأمثل إلى وحدة الأمة ومحبة الأفراد فيما بينهم ، وثقتهم بأمّتهم وقياداتهم …
ومن الناحية الأخلاقية فإن انفراد شخص واحد مهما كان موقعه في السلطة ، بالفصل في الأمور المصيريّة ، مع عدم أخذه بعين الاعتبار آراء إخوانه أو أبناء شعبه ، يتضمن أيضاً نوعاً من تعظيم الذات ، واحتقار الآخرين ، وهي صفات لا يُتوقّع أن توجد في العرب والمسلمين ، فضلاً عن الإسلاميين والحركيين .
من هنا كان مبدأ الشورى أعمق في حياة العرب والمسلمين من مجرّد أسلوب للحكم ، بل هو الطابع الأساسي للأمة المسلمة ، ولذلك فقد قرنه الله في القرآن المكي ، أي قبل الحكم وقيام الدولة الإسلامية أصلاً ، بأعظم أركان الإسلام ، فقال تعالى : (( والذين استجابوا لربهم ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمرهم شورى بينهم )). الشورى
فالشورى صنو الإيمان والصلاة والزكاة ، وليست مجرّد وسيلة تنظيمية تمليها حاجات وقتيّة فحسب . من أجل ذلك كلّه فقد كانت حياة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم ) قائمة كلها على الشورى ، وكذلك كانت حياة خلفائه الراشدين ( رضوان الله عليهم ) من بعده …
وإذا عرفنا ذلك عن أهمية الشورى وضرورتها في حياة أمتنا ، فيجب أن نعرف شيئاً عن أسلوبها وآدابها وطريقة إدارتها … فالشورى في جوهرها حوار ونقاش وتقليب لوجهات النظر المختلفة بهدف الوصول إلى أفضل الحلول ، وللحوار والنقاش في الإسلام آدابه وضوابطه ، فالقادة يتفاوتون في عقولهم ومداركهم وقدراتهم ، وبالتالي فاختلاف الرأي بينهم أمرٌ طبيعي ، ومن يستقريء التاريخ الإسلامي منذ البعثة النبوية الشريفة وحتى اليوم يتأكد له بما لا يحتمل الشك أن المسلمين بصورة عامة وأهل الشورى ( أهل الحل والعقد ) بصورة خاصة كانوا يتفاوتون في الحكم على القضية الواحدة ، ولكن اختلافاتهم واجتهاداتهم وحواراتهم لم تكن لتخرج عن دائرة الشرع وإطار الإسلام ، وتبعاً لاختلاف الآراء وتباين الاجتهادات حول ما كان يستجد من أمور في مسيرة العمل الإسلامي ، كانت تبرز ظاهرة ما يسمى في لغة عصرنا ( بالنقد الذاتي ) والتي عبّر عنها المصطلح القرآني بالتواصي بالحق ، وهو واحد من أهم الواجبات الشرعية في العمل العام ، بالإضافة لكونه مناط الفلاح للأفراد امتثالاً لقوله تعالى :
(( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وألئك هم المفلحون )) .
وعلى هذه الأسس الراسخة انطلقت مسيرة الدولة العربية والإسلامية في عصورها الذهبية ، يعصمها من الانحراف صدق التوجّه إلى الله ، و شديد المراقبة له ، فضلاً عن حسن التواصي بالحق بين المسلمين ، في أدب رفيع ، وتواضع عال ، يحدوهم في ذلك خُلُق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القائل : ( المؤمن أخو المؤمن لا يدع نصيحته على كل حال ) .
وما ورد في الأثر : ( حقُّ المؤمن على أخيه أن يبين له الحق إذا احتاج ، وأن يشدّ من عزمه إذا أصاب ، وأن يشكر له إذا أحسن ، وأن يذكّره إذا نسي ، وأن يرشّده إذا زلّ ، وأن يصحّح له إذا أخطأ ، وأن يجامله في الحق ، ولا يسايره على باطل ، المؤمن هادٍ ودليلٍ ومعين ٍ وأمين ).
وحين يوجب الإسلام على المسلمين أن يتواصوا بالحق ، فإنه يضع لذلك شروطاً محدّدةً يحسن بكم أن تتذكّروا أهمها ، مثل : تحرّي الصدق : وذلك بأن يتحرّى الناصح لدى ممارسته لحقّه في الحوار والمناصحة ، الصدق ، وأن يتبيّن الأمور قبل أن يدلي برأيه فيها ، لأن الرأي الصحيح إنما يعتمد بالضرورة على المعلومات الصحيحة ، فكم من شائعة ليس لها من أصل ، وكم من مقولة صاغها وضخّمها كثرة تناقل الألسنة لها ، وربّ كلمة لا يلقي لها المسلم بالاً تهوي به في جهنّم ( أعاذكم الله ) سبعين خريفاً . وتحرّي القصد : بمعنى أن يستطلع القائد منكم ، البواعث التي تدفعه إلى الحوار والنصح وإبداء الرأي وتوجيه النقد ، مخافة أن يخالطها شيء من هوى النفس وحب الظهور وتسفيه آراء الآخرين ، وغيرها من الصفات التي نربأ بكم عنها .
واختيار الأسلوب : فقد اشترط الله لعملية التواصي ( التي تقابل النقد والحوار في عصرنا ) أن تكون بالحق ، فقال تعالى : (( وتواصَوا بالحق )) ، ولذلك فيحسن بمن يقود أمته أن يحاور إخوانه بأدب واستحياء وخفض جناح ، وأن يتخيّر ألطف العبارات وأعذب الكلمات ، فكم من كلمة لم يلق لها الإنسان بالاً لكنّها أورثت أحقاداً وعداوات بين أبناء الأمة ، وتسببت بانفصام عرى الأخوّة والوحدة بين أبناء الجماعة الواحدة ، كما يحسن بمن حمّله الله أمانة المسؤولية في مثل هذه الظروف الصعبة ، أن يكون رقيقاً رفيقاً مع أخيه ، قال تعالى مخاطباً نبيه (ص) وهو ألطف قائد في الوجود : (( فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ، ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ))
فالغلظة والجلافة في الحوار مدعاة لإغلاق القلوب ونفور النفوس وصمّ الآذان عن سماع الرأي ، حتى وإن كان صواباً وحقّاً ، بينما الرفق والرحمة والمودّة تفتح الآذان ، وتنير العقول ، وتجبر النفوس على سماع الرأي وتقبّله والتأثّر به ، وبالتالي تحقيق الهدف الأساسي من عملية الحوار. وما أروع أن تهتدوا بقول الرسول الكريم ( ص) : ( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه ، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه )) رواه أحمد .
ورحابة الصدر : فما أجمل أن تتعاهدوا في اجتماعكم على الصبر على بعضكم ، ورحابة الصدر فيما بينكم ، وأن يكون رائدكم في اجتماعاتكم وحواراتكم ونقاشاتكم ، مرضاة ربّكم ، ومصلحة أمّتكم ، ثم التماس الحق ، وإسداء النصح ، والنهوض بواقع الأمة في مثل هذه الظروف العصيبة التي رمتنا فيها قوى الصليبيّة والصهيونية والمجوسية الصفوية وأذنابها وأعوانها عن قوس واحدة .!!
لا أن يكون الغرض مجرّد غلبة فريق على فريق ، أو انتصار رأي على آخر ، أو إظهار المقدرة على الكلام ، أو تسفيه آراء الآخرين مهما تكن بسيطة ومتواضعة ..
فالقائد الناجح كالطبيب الناجح تماماً ، يسعى دوماً إلى استلطاف مريضه وتدليله والصبر عليه ورفع معنويّاته ، لا أن يسفّه رأيه ويحتقره ويسخر منه .!!!
وما أروع أن نختتم بكلمة عملاق الإسلام عمر ( رض) الذي كان يقول :
( أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي )) …