تحديد الهوية معضلتنا

نوال السباعي

"إن قرون التخلف التي مرّت بنا، انتهت في القرن الماضي، بوضع للمرأة المسلمة، لا يقول به فقيه مسلم".

"إن الإسلام شيء، واتجاهات الناس في معاملة المرأة شيء آخر، ولا ريب أن ذلك يسيء إلى الإسلام".

"إن التربية الراشدة، الناضجة، هي الضمان الأول لكل نهضة، والبيت هو المدرسة الأولى لتلك التربية، وعندما تكون المرأة صفر العقل والقلب، لا ثقافة في مدرسة، ولا عبادة في مسجد، فمن أين تتحقق التربية؟".

"إن فقدان التربية السديدة، والأخلاق الصلبة يرجع إلى العوج الهائل في وسائل التربية، وأول ذلك المرأة".

هذه مقتطفات من كتاب "هموم داعية" لعلم الإسلام الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله - والذي أصيبت فيه الأمة الإسلامية بعدما كان قد ساهم دون أن يدخر جهداً في ترشيد الصحوة الإسلامية في جميع أرجاء الأوطان الإسلامية.

ذكرت هذا الكتاب وأنا أفكر في العنوان الذي يمكن أن أدرج تحته خواطري، والتي يصعب عليّ أن أخص بها المرأة المسلمة وحدها، دون سائر المسلمين، فأنتزعها – أي المرأة - بذلك من مجمل جسد هذه الأمة، التي استغرق تثاؤبها خمسين من الأعوام، ثم بدأت تستيقظ في ضوضاء وتخبط، وبطرق شتى، وصور شتى.

المسلمة.. امرأة، ولكنها قبل ذلك إنسانة، وبعد ذلك هي أم أو زوجة.

والمرأة المسلمة تعاني اليوم من التخبط والضياع في تحديد هوّيتها، وفهم انتمائها، وحقيقة وجودها!

لقد رأيت نساءً مسلمات لا يعين من قضيّة إيمانهن ولا إسلامهن شيئاً، كما شهدت مواقف لنساء مولودات في الإسلام كنّ يطالبن فيها في محافل عالمية بالقضاء على الإسلام، بل يناشدن الدول والقوى الغربية التدخل في بلادهن لوقف الزحف الإسلامي.

قضية المرأة المسلمة اليوم، هي قضية الرجل المسلم، هي قضية الإنسان المسلم.. قضية العالم الإسلامي بشكل عام، والعربي منه بشكل خاص، إنها مشكلة القدرة على تحديد الهوية، بعدما أضاع قرناً من الزمان يجرب الأطر الجاهزة المستوردة التي ولدت ونشأت وترعرعت في ظروف وأمم أخرى، لا علاقة لظروف نشأتها، ولا تاريخ إنسانها بالأمة الإسلامية، وإن كانت الظروف، والتاريخ، والتجارب الإنسانية بمجملها ذخائر بشرية لا يجوز لأحد أن يحتكرها.

ولكن من الخطأ الفادح أن تحاول الأمم استعارة قوالب فكرية وسلوكية جاهزة، نتجت عن تجارب حضارات أخرى، وأن تقوم – تلك الأمم - فضلاً عن ذلك بمحاولة جادة لمحو هويتها الذاتية، وإلغاء مقوماتها الشخصية بحجة الانفتاح الحضاري، الذي لا تمارسه بالشكل الذي نمارسه حالياً، إلا الأمم المهزومة في نفسها وعقائدها، الذليلة عسكرياً، العاجزة اقتصادياً، والتي أعمت بصائرها مشاعر النقص، والتبعية، وتقليد القوي، يوم افتقدوا في أنفسهم الاعتزاز بتاريخهم، والإيمان بطريقهم، والقدرة على الثبات والتحدي.

إننا نعاني بشكل خطير من عجز مدقع في قدرتنا على تحديد الهوية، وما زلنا نتخبط – منذ شاركنا مشاركة فعالة في اغتيال الخلافة في مطلع هذا القرن - بين الوطنية، والقومية، ونتنكب عن الاعتراف بانتمائنا الإسلامي الوحيد الذي يحدد شخصيتنا التاريخية والحضارية، ويدفع فينا تلك القدرة على الثبات والتحدي في عالم اليوم الذي يدّعي الإنسانية، وهو يحاول جاهداً أن يتميز حضارياً ضمن هياكل ثقافية اقتصادية دينية مشتركة، يعمل حثيثاً على أن يذوّب فيها نعراته القومية، وتطلعاته الوطنية التي تستخدم كعناصر بناء وإغناء لا معاول هدم وتمزيق، كما يجري في كيان الأمة الإسلامية اليوم، وإذا كانت الأمة الإسلامية تعاني من هذا الداء الخطير الذي يتمثل في ضياع القدرة على تحديد الهوية، فإن أفرادها يعانون من مصيبة كأداء في قدرتهم على التمثل بهذه الهوية رجالاً ونساء على السواء.

وعندما تعاني أمة من مثل ما تعاني منه أمتنا اليوم تصير القضية قضية مصير، قضية جسد مريض، تشتكي أعضاؤه جميعاً، ولابد من تشخيص الداء، ومحاولة استئصال الأذى الذي أصاب هذا الجسد بشبه مقتل.

ولقد أمضى الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله - وغيره من مجاهدي الفكر والمجتمع ستين عاماً في تشخيص الداء، ووصف الدواء، وترك لنا كنوزاً من الكلمات المنيرة التي كان يعبّر من خلالها عن همومه وآلامه التي تتفجر من بصيرة نافذة، ووعي خارق للعادة، وعلم وفقه مكين، عرضه – رحمه الله - لأذى المتنطعين، وذوي الأهواء، الذين أساءوا إلى الأمة وساهموا في تآكل بنيانها الداخلي من حيث يعلمون أو لا يعلمون!! إنها حقيقة بسيطة، مسطحة، لكنها واضحة جليّة، أشار إليها القرآن الكريم في عشرات المواقع.

لقد فهم الغزالي – رحمه الله - أن مصيبتنا تكمن في أنفسنا، وأن المجتمعات الإسلامية التي تنكبت عن هذا الفهم أصيبت بالمرض، والتعفن، والتفسخ بسبب البعد عن فهم دينها – إما إسرافاً أو تقتيراً - ووعي أبعاد نظمه الحضارية في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة، وأن الوجهة التي يتبعها البعض في استعجال الوصول إلى السلطة السياسية بأي وسيلة، إنما هي وجهة عقيمة جرّ سوء فهمها على المسلمين الويلات خلال هذا القرن البائس الذي نشهد أفول نجمه.