بين الخديعة والخطيئة خيط رفيع
في الذكرى 68 لتأسيس البعث
د. محمد أحمد الزعبي
كاتب هذه الكلمات شخص ثمانيني العمر ، أي أنه اصبح - كما يقال- رجل بالقبر وأخرى ماتزال خارجه . وبما أنه مايزال قادرا على الكتابة وعلى البوح ، فقد وجد أنه من حق كل من توسم ويتوسم به خيرا ، ولا سيما أبناءه ، أن يقول شيئا حول وقوعه ذات يوم في فخ الخديعة ، والتي بعد كل مارأيناه وما نراه في سوريا هذه الأيام ، تحولت الخديعة إلى خطيئة ، لا يتحمل وزرها الخادع فقط ، وإنما المخدوع أيضاً .
1. عندما كنت تلميذا في الصف السابع في متوسطة درعا عام 1947 ، اتفقت مع صديقين لي من نفس العمر وفي نفس الصف ( هما ...) على ان نجمع " خرجيتنا " في " حصالة "خاصة، كي نؤسس بها عندما نكبر حزبا سياسيا هدفه إعادة أمجاد الأمة العربية إلى سابق عهدها . ولا حاجة إلى القول هنا ، أن الإسلام والعروبة كانا بالنسبة لنا في تلك المرحلة العمرية والتاريخية، يمثلان وجه الميدالية وظهرها ، أي مقولة واحدة .
(وذلك خلافا لما بدأنا نراه ونسمعه ونلمسه لاحقا ، ولا سيما بعد ثورة / انقلاب الثامن من آذارعام 1963 ، وتفرد حزب البعث في السلطات الثلاث في سورية ) .
2. وقبل أن نبدأ أنا وزميليّ بمشروعنا السياسي العفوي ، عرض علي أحد أساتذتي في متوسطة درعا ، وهو المرحوم علي محسن زيفا من لواء إسكندرون ، أن انتسب إلى حزب جديد ، إسمه " البعث العربي" أسسه مفكران عربيان هما " ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار" . لقد أعجبتني الفكرة ، وتقدمت بطلب الانتساب إلى حزب البعث العربي وأصبحت عضواً فيه منذ 1947 أي منذ ( عام التأسيس ) ، والذي تحول بعد اندماجه مع الحزب العربي الاشتراكي (أكرم الحوراني) 1952 إلى " حزب البعث العربي الاشتراكي "،وأصبح للحزب عمليّاً قيادة جماعية ثلاثية مكونة من ميشيل عفلق، أكرم الحوراني، وصلاح الدين البيطار .
لقد كانت شعارات الحزب(الوحدة والحرية والاشتراكية) موضع اعتزازي وحماسي ، واللذان وصلا في حينها - وهو أمر لابد من أن أعترف به - حد العمى الأيديولوجي ، حيث بت لاأرى ولا أسمع ولا أفكر إلا بالحدود التي يتيحها لي هذا القالب الأيديولوجي ، الذي كان قالباً حديدياً ، رغم مرونته الظاهرية . هذا وتقتضي الموضوعية مني ، أن أعترف ، أن هذا القالب الأيديولوجي الحديدي قد انطوى إلى جانب سلبياته في المجال السياسي ( الموقف
الرمادي من بعض الإنقلابات العسكرية )،على جوانب إيجابية في المجال الاجتماعي ( تغليب مبدأ المواطنةعلى كافة العصبيات الأخرى في سورية والوطن العربي )، ولا سيما في الفترة مابين 1947 ( تأسيس الحزب ) و 1958 ( حل الحزب ) ، .
3. لقد مثلت موافقة قيادة البعث الثلاثية على حل الحزب في سوريا عام 1958، ـ بنظر الكاتب ـ خللاً كبيراً في مسيرة الحزب،ترتب عليه،جملة من الاختلالات اللاحقة،التي وصلت بالحزب في سوريا إلى حالته المؤلمة والمؤسفة الراهنة . أبرزهذه الإختلالات :
3.1 برزت لأول مرة داخل الحزب ، إشكالية العلاقة بين شعارات الحزب الثلاثة ( الوحدة ، والحرية ، والإشتراكية ) ، وهل تمثل مثلثا متساوي أم مختلف الأضلاع ؟ هل يمكن الكلام عن أولوية أو تراتبية بين هذه الشعارات ، أم أنها شعارات متكاملة ولا تقبل الإنتقائية ؟ . (وإذا كنت لاأريد أن أشير هنا إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي فرضت يومها على الحزب هذا الموقف ،(حل الحزب) والذي كان بنظري نوعا من " الهروب إلى الأمام " ، فلأن الموضوع آلذي تدور حوله هذه المقالة ، لا يتعلق بالوحدة مع مصر ، وإنما بحزب البعث العربي الإشتراكي أساسا ).
3.2 الاستقالة السريعة من الوحدة مع مصر ، وذلك بتقديم وزراء الحزب استقالتهم من حكومة الوحدة المركزية ، تلك الاستقالات التي أعطت في حينها الإنفصاليين (مجموعة النحلاوي العسكرية ) مبررا ما ، كانوا بحاجة إليه عام ١٩٦١ للقيام بانقلابهم الإنفصالي ، والذي سارع إلى تأييده ( بصورة أو بأخرى ) كثير من قادة الحزب من المدنيين والعسكريين ، و أدى لاحقا إلى انقسام هؤلاء القادة وبالتالي الحزب ، بين مؤيد للانفصال ( علنا أو ضمنيا ) ومناهض له ، وإلى جملة الصراعات والتصفيات سواء داخل الحزب نفسه ، أو بينه وبين التيارات والمجموعات الناصرية والوحدوية الأخرى .
3.3 ، نشوء بذرة الطائفية في الحزب ، وذلك بتشكيل عدد من ضباط الحزب نواة اللجنة العسكرية ، في القاهرة عام 1959 ( اي مباشرة بعد قيام الوحدة ) والتي (اللجنة العسكرية ) استولت لاحقاً على الحزب والجيش بعد انقلاب الثامن من آذار1963الذي كان مبرره المعلن(!) إنهاء الإنفصال وإعادة الوحدة ، والتي ( اللجنة ) زرعت بذور الطائفية المقيتة فيهما ( الحزب والجيش ) و وظفتها لاحقاً في الهيمنة عليهما ، ومن خلالهما على سورية كلها ، وبات ينطبق علينا المثل الشعبي المعروف " لقد أوسعناهم سبّاً وفازوا بالإبل "
3.4 ، لقد زاد قيام الوحدة عام 1958 على النحو الذي قامت عليه ، ومن ثم سقوطها 1961، في الطنبور السوري نغماً ، من حيث انقسام التيار القومي العربي إلى بعثيين وناصريين ، وانقسام البعثيين أنفسهم إلى قوميين وقطريين ، وانقسام التيارات السياسية الفاعلة في سورية إلى إسلاميين وقوميين ، يساريين ويمينيين ، سلفيين وحداثيين ( ليبراليين ) ..الخ ، وتعمق الصراع بين هذه التيارات السياسية والحزبية ، وخاصة بين الناصريين والإخوان المسلمين ، ولا سيما بعد قيام الرئيس عبد الناصر بإعدام سيدقطب وعدد من قادة الإخوان المسلمين في مصر ، وبعد رفض الشيوعيين حل حزبهم كما فعل البعث ، وهكذا تم في ظل تنامي وتفاقم هذه الصراعات الحزبية ،سواء في فترةالوحدة بين عامي 1958 و 1961 أو بين فترة الانفصال 1961وانقلاب الثامن من آذار1963- عمليا - تجاوز وتجاهل مسألة الوحدة السورية المصرية ( ج ع م ) ، سواء في ثوبها الثنائي ( مصر وسورية ) أو ثوبها الثلاثي ( مصر وسورية والعراق ) ، وأصبحت في خبر كان .
3.5، وأيضاً في خضم هذه الصراعات ، قامت ثورة الثامن من شباط / فبراير 1963 البعثية في العراق ( علي صالح السعدي ) ، والتي انتقلت نتائجها الحزبية إلى سورية بعد قيام ثورة / انقلاب الثامن من آذار1963 ، وقام الطرفان السوري والعراقي بمحاولة إقامة شكل جديد من الوحدة الثلاثية مع مصرعبد الناصر ، يتلافى الحزب فيه ( الشكل الجديد) أخطاء وحدة 1958. (ودونما الدخول في تفاصيل هذا الموضوع المعقدة والشائكة ) ، فإن هذه المحاولة قد فشلت بدورها .
3.6، ولقد كانت أبرز إشكالات هذه المرحلة الجديدة ( مرحلة مابعد 1963 ) ، هي الصيغة التي تمت بها إعادة تفعيل نشاط الحزب الذي تم حله رسميا عام ١٩٥٨ . من حيث ظهور البدايات الأولى لزرع بذور الطائفية التي دخلت الحزب من بوابة أو قل من شباك انقسام الحزب بين " يمين " (!) و " يسار " (!) ، حيث تم ربط اليمين بميشيل عفلق واليسار ببعض العسكريين ، الذين كان من بينهم ، بل وفي مقدمتهم صلاح جديد وحافظ الأسد، والتي أدت لاحقا من جهة إلى انقسام البعث إلى " بعث سوري " و" بعث عراقي " ، ومن جهة أخرى إلى سيطرة الجناح العسكري الطائفي على الحكم في سوريا ، بعد صراع حزبي مرير داخلي استمر من 1963 وحتى 1970، مروراً بمحطتي 23 شباط 1966 ، وحرب حزيران 1967، والذي ( الصراع الحزبي ) مايزال مستمرا إلى يومنا هذا ، بصورة أو بأخرى ، بدرجة أو بأخرى ، ولاسيما بين البعث العراقي العفلقي ، والبعث السوري الطائفي . إن إشارتنا هنا إلى الصراع الحزبي الداخلي بين عامي 1963 و1970 لا يعني - بطبيعة الحال - أننا نعفي طرفي هذا الصراع المعنيين ، المدنيين منهم والعسكريين ، الخادعين منهم والمخدوعين من مسؤوليتهما المشتركة ( والكاتب من بينهم ) ، عما وصلت إليه مأساة الشعب السوري منذ منتصف شهر آذار2011 وحتى اليوم( 7/4/15 )، على يد عصابة عائلة الأسد الديكتاتورية العسكرية الطائفية،عصابة تغييب الحياة الديموقراطية البرلمانية التعددية في سوريا ، عصابة تغييب الحرية والكرامة وحقوق الإنسان ، عصابة البراميل المتفجرة ، وأسلحة الدمار الشامل ، عصابة تدمير سوريا بشراً وشجراً وحجراً .
لقد قال لي أحد الأصدقاء المخدوعين ذات يوم ، مستخدماً مثلاً شعبياً معروفاً ، " إن من صعّد الحمار إلى المئذنة هو من سينزله عنها ". مسكين هذا الصديق ، لقد كلفته هذه الرؤية القاصرة ، ربع قرن من السجن ، تلتها حياته كلها بعد خروجه من السجن ببضعة اشهر فقط ، أي أنه خرج ـ واقعياً ـ من سجن حافظ الأسد مباشرة إلى القبر . إن الحمار ما يزال فوق المئذنة ( ياصديقي ) حتى يومنا هذا ، بل إنه قطع عليك الطريق بتدمير كافة مآذن مساجد سورية ، من الجامع العمري في درعا ، وحتى جامع عثمان في دير الزور . رحمك الله أيها الصديق ، ولعن من دمر هذه المآذن التي قال عنها نزار : وللمآذن كالأشجار أرواح .
4. ، سأنقل في هذه الفقرة نصّاً شبه حرفي ، من الخاطرة الثامنة من خواطر شاهد عيان للكاتب نفسه ،والتي يعود تاريخها إلى شهر آذارعام 2012 ( أنظر أخبار الشرق تاريخ 26.03.2012 ) ، وذلك بسبب علاقتها بموضوع هذه المقالة :
" إنني بعد كل مارأيت ، وما عايشت ، وما سمعت ، منذ 1963 وحتى اليوم ، ولاسيما قصة البلاغ العسكري رقم 66 المتعلق بإعلان سقوط مدينة القنيطرة عاصمة هضبة الجولان ، قبل أن تسقط فعليّاً( أنظر الخاطرة الثالثة ، الحوار المتمدن ، 22.08.2011 ) ، أكاد أجزم ، أن عددا من الدول الأجنبية والعربية ( ... ) هم من دفعوا حافظ الأسد وشلته ، ولاحقاً بشار الأسد وشلته إلى واجهة الحزب والجيش والحكم في سورية ، وأن تاريخ هذه العملية المدروسة والممنهجة ، إنما يعود إلى ماقبل عام الوحدة 1958 التي كانت معبراً لحركة الإنفصال عام 1961 ، الذي ( الإنفصال) كان بدوره تمهيداً لحركة الثامن من آذار 1963 ، التي مثّلت مع حركة 23 شباط 1966 ، وبلاغ سقوط القنيطرة العسكري رقم 66 ، الجسر الذي عبرعليه حافظ الأسد إلى السلطة في سورية عام 1970 ، حيث أدت ممارسات نظامه الوحشية ، والتي تابعها وريثه بشار إلى الإنفجار الشعبي السلمي الذي بدأ في محافظة درعا في 18 آذار 2011 ثم عم كافة أرجاء سورية . والذي كان جواب نظام عائلة الأسد عليه ( الحراك الشعبي السلمي ) ليس الاستجابة لإرادة الشعب ، وإنما القيام بتدمير سورية بشراً وشجراً وحجراً ، وتهجير وتشتيت شعبها ، تهجيراً وتشتيتاً دونه ماحصل للشعب الفلسطيني قبل واثناء وبعد عام النكبة عام 1948 على يد العدو الصهيوني ، وذلك تحت سمع " العالم الحر" وبصره ، بل وتحت تفرجه وصمته ، إن لم نقل أكثر من ذلك ، فياله من عالم حر !!. إن ماقام به حافظ الأسد مابين عامي 1970 و 2000 م ، وما يقوم به وريثه وإبنه بشار منذ 2011 وحتى هذه الساعة ، لاعلاقة لحزب البعث العربي الإشتراكي ( يمينه ويساره ) به لامن قريب ولا من بعيد ، وإنما هي الطائفية البغيضة والمقيتة ، والتي لم تكن تعرفها سوريا قبل 1963 .
5. وختاماً ، أقول لكل من لايزال مغشوشاً ومخدوعاً ومشاركاً ، في أكذوبة علمانية وتقدمية وبعثية نظام عائلة الأسد ، وأيضاً أكذوبة دفاعه عن الأقليات وحمايته لها، ولا سيما عن إخوتنا من الطائفة العلوية أقول لهم : إصحوا يرحمكم الله من كبوتكم ، أنظروا حولكم ، بل انظروا في أنفسكم ، فلقد آن لمسيلمة الكذاب أن يرحل .
إن الفرق بين "المحبكجي والشبيح"، ياإخوتنا من المحبكجية المخدوعين بأكاذيب عائلة الأسد ، هو كالفرق بين الكذّاب والمدلّس ، أي بين الكذب المباشر والكذب غير المباشر . وبرأي الكاتب ، فإن المخدوع والخادع هما في المسؤولية سواء ، ذلك أنه بين الخديعة والخطيئة خيط رفيع ، لايرى بالعين المجردة ، ولكنه متين ، فحذار حذار أيها الإخوة المخدوعون.