الثقافة والثقافة البديلة
الثقافة والثقافة البديلة
فوزي الديماسي – تونس
عاشت البلاد العربية من المحيط إلى الخليج على وقع الربيع العربي ( تونس – مصر- ليبيا – اليمن – سوريا ...) وقامت تحركات شعبية عفويّة ( ثورة بلا رأس) من أجل إسقاط دولة الاستبداد ورموزها والحكم الشموليّ ، حاملة بين جنباتها حلم تركيز مقوّمات الدولة المدنيّة الوطنيّة التي تعلي من شأن قيم المواطنة ( الحرية – الكرامة – الشغل – الحق في الثروة الوطنية ...) وعصفت رياح الغضب برموز القهر والظلم والمحسوبية والتخلّف والعمالة ، مخلّفة وراءها جملة من الأسئلة الحارقة التي طفت على السطح ، وتزيّت بزيّ مقولات فكرية وإيديولوجية وممارسات ثقافية لم يكن مسموحا بممارستها في دولة الفرد الواحد والحزب الواحد واللون الواحد ، كما انفجرت عيون فكرية من هذا الاتجاه وذاك ، فمنهم من يرى أنّ الثورات جاءت لتبشّر بعودة الروح إلى منابعها الأصلية ، والقطع مع ثقافة التغريب والإنبات ( التيارات السلفية ) ، ومنهم من زفّ للوطن ثقافة التحديث واللحاق بركب الدول المتقدّمة وقتل الأب ( التيار التحديثي ) ومنهم من يريد اعتماد النموذج الإسلامي الوسطي ( حركات الإسلام السياسي ) ، وانخرطت البلاد والجماعات في دوّامة المدّ والجزر في التعاطي مع المسألة الثقافية ما بعد الثورة ، فتعدّدت الرؤى والتصورات ، وتعالت على اختلافها الأصوات ، وأصبحت الساحة ( الفكرية والسياسية ) مفتوحة على أفكار متعدّدة ، وقراءات متنوّعة ، متجانسة حينا ، ومتضاربة أحيانا ، فمنهم من رفع شعار الدفاع عن الدولة المدنية ومقومات النظام الجمهوري والحرية الفردية ، ومنهم من رفع شعار " الإسلام هو الحلّ " ، وللحفاظ على تنوّع المجتمعات ووحدتها على قاعدة التعايش السلمي بين الأطياف السياسية والفكرية وجب إشاعة نمط ثقافي بديل يضمن للتناقضات التعايش دون تناحر أو إلغاء أو إقصاء ، يأخذ شكل عقد اجتماعي يسمح بالحياة تحت سقف واحد اسمه " الدولة " ، ولمفهوم الدولة أسسه التي يتقاطع فيها الثقافي بالسياسي باللغويّ بالحضاريّ بالعقائدي ، إذ الثقافة هي ذلك الكلّ المعقّد الذي يتضمّن المعرفة ، والمعتقد ، والفنّ ، والخلق ، والقانون ، والعادات الاجتماعية ... " * وطبيعة الثقافة( عكس الطبيعة ) هي حياة مادية وروحانية متحرّكة وليست ثابتة ، مكتسبة وليست نهائيّة ، إذ ما يكون في هذه المجموعة مباحا ، قد يكون عند الآخرين مذموما والعكس بالعكس ، فكيف السبيل لإنشاء مجتمعات ما بعد الثورة ، تحتكم لثقافة تؤمن بالتعدّد والاختلاف في أبعادها السياسية والاجتماعية والعقائديّة ، وتتيح للناس جميعا على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم الفكرية التعايش ، دون أن يجنحوا للتقاتل باسم الدفاع عن دين أو فلسفة أو معتقد أو عشيرة أو جهة أو جماعة .... ؟ إذ يعيش الوطن العربي " الهنا والآن " وفي جزء كبير منه حالة من الغليان الثقافي بحثا عن ملامحه ومعالمه كما يتصوّرها كلّ فريق بعدما عانق الصمت في ظلّ دولة كليانيّة امتدّت لسنوات تسبّح بحمد الفرد وعملت بكل الأساليب على تجفيف منابع الفكر بشقّيه الديني والحداثي ، كما أفرغت مفهوم الدولة من محتواه ، واستحالت الشعوب رعايا ، ومع فجر الثورات العربية أصبحنا في حاجة ملحّة إلى مراجعات فكريّة ، وإعادة صياغة لمفهوم الثقافة في كل جوانبها ، إذ الناس مفطورون على الاجتماع بسبب ما هم عليه من عجز طبيعي على استقلال الواحد منهم بأمر تحصيل قوته ، وحفظ بقائه ، فضلا عن ترقّيه ، واجتماعهم يقتضي سلطة فيهم تزع بعضهم عن بعض . ولكن إلى جوار هذا الميل إلى الاجتماع ، والحاجة الضروريّة إليه ، هناك منزع أصيل في الإنسان إلى العدوان والأثرة وتجاوز الحدود ... الأمر الذي أدّى إلى ظهور سلطة في الجماعة ... وإذا كان وجود السلطة في الجماعة يقسمها إلى حاكم ومحكوم ، وآمر ومطيع ، فعلى أيّ أساس تقوم هذه العلاقة ، ولأيّ قانون
تخضع ؟ وما هو مصدر الإلزام بالطاعة ؟ وما هي حدودها ؟ * وما علاقة الفرد بالآخر المختلف داخل النسيج الاجتماعي ؟ وما هي ملامح الثقافة البديلة التي تحدّد ملامح سبل العيش الآمن بين الأفراد والجماعات ؟
الحداثة الواهمة :
طفت على سطح الثقافة العربية أفكار وأطروحات منذ بداية التنظير لعصرالنهضة العربية مع رواد الإصلاح على غرار محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا وصولا إلى أسماء معاصرة مثل علي حرب ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد عمارة وغيرهم ممن اختاروا إتباع الغرب في كل مظاهر حياته لتحقيق لحظة الخروج من بوتقة التخلّف والإجابة عن سؤال كيفا لسبيل لتجاوز لحظة الانحطاط ... وعملت هذه الأسماء وغيرها على رصد ملامح المجتمع وبؤر التخلّف فيه ، وقامت بتشخيص مواطن التخلّف والضعف وأسباب التقهقر، كلّ من زاوية رآها مناسبة لتغيير المجتمع ، وما يلاحظ هو إخفاق خطاب الحداثة في التغلغل في النسيج الاجتماعي والاكتفاء بمهمّة التنظير، وحشد المصطلحات دون القدرة على التأثير في مجريات الحياة ، وبالتالي خلق أنماط ثقافية وطرق تفكير تتماشى مع متطلّبات العصر وأسئلته ، وأكّد هذا الخطاب ( خطاب الحداثة ) عدم القدرة على تحقيق مقولات الحداثة ، وتجسيمها في المجتمع وفي نمط تفكيره ،وممّا يجعلنا نقرّ بأنّ العرب لم يكتسبوا حداثتهم بعد ، بل هم يعيشون حداثة مشوّهة زائفة ، ولذا فالمهمّة الأساسيّة الملقاة على عاتق المثقّف هو العمل على اكتساب القيم المركزيّة للحداثة وترسيخها ، وليس القيام بنقدها وتفكيكها * وجعل التيارات المخالفة لتيّار التحديث والاستعمار شمّاعة الفشل الحضاري عليه نعلّق فشلنا عوض أن نقف أمام مرآة واقعنا الآني ونطرح على أنفسنا بكل صدق الأسئلة التي ستسقط عنّا ورقة التوت مثل " لماذا تعثّرت مشاريع التحديث والتنوير والتغيير على أرض الواقع ؟ لماذا فشلت الحداثة على يد دعاتها ؟ والعقلانية على يد طلاّبها ؟ والديمقراطيّة على يد حرّاسها ؟ والعلمانيّة على يد كهنتها ؟ بل لماذا يجري الآن تراجع عن إصلاحيّة محمّد عبده وتنويرية طه حسين وعلمانية علي عبد الرازق ؟ * إذن ليست الحداثة مقولات نحفظها عن ظهر قلب ونجترّها ، ونجتثّها من منابتها ونسقطها على واقع غير واقعها ، فالمطلوب تمثّل هذه المقولات واستبطانها ، ثمّ إخراجها في حلل تتماشى مع المعقوليّة الجمعيّة . وفي غياب هذا التمثّل الوظيفي للأفكار والثقافات الوافدة وتطويعها للواقع للتأثير فيه ينسحب علينا قول مالك بن نبي " إذا غابت الفكرة بزغ الصنم " أي إذا غابت الأرضية المؤسّسة على فكر نقدي ، وفكر وظيفيّ يستلهم من الثقافة الإنسانيّة ما به يضيف لثقافته الأمّ ، سيخرج علينا فكر تقديسي وكهنوتيّ للمقولات المركزيّة للحداثة ، فنجد بذلك طبقة من جعلوا من اللحاق بالغرب والتماهي معه جسرا للدخول إلى نادي الأمم المتقدّمة أو هكذا يتصوّرون ، طالما أنّهم يعيشون على هامش صنع التاريخ على أرضهم ، ما لم يعملوا على استبطان مقولات الحداثة المركزيّة ، وتكييفها حسب مفاهيم الثقافة الأمّ وأسئلتها . ومع انعدام التمثّل النقدي بزغت أصنام عديدة من قبيل صنم كارل ماركس وماوتسيتونغ وستالين وهايدغار وروسو وسارتر وغيرهم ...وباتت الحداثة بذلك جملة من المقولات المقدّسة ، والمساس بها أو تعريضها للنقد يعدّ عملا مرفوضا من قبل سدنة الحداثة وحرّاسها والنخب المؤمنة بها . إنّ النّخب المثقفة قد طالبت ودعت ونادت وروّجت وسعت وجرّبت وكدّست الدراسات والكتب ، منذ عقود ، من غير أن تنجح في ترسيخ القيم المركزيّة للحداثة ... ثمّة مجتمعات معاصرة ، كانت أقلّ منّا علما وثقافة ، وأقلّ تواصلا مع الفكر الغربيّ ، قد انتقلت بسرعة الضوء إلى صنع حداثتها ، آو ما بعد حداثتها ، سواء عن طريق المنتوجات الماديّة أو الرمزيّة لكي تفرض نفسها على العالم وتساهم في لعبة الأمم . أمّا نحن فلم ننجح بعد في الانخراط في اللعبة .ومازلنا أبعد من أن نؤثّر في مجريات الأحداث والأفكار على النحو الذي يعود علينا بالنفع والخير ، أو بالقوّة والازدهار * لأنّ نخبنا اكتفت بمحاكاة النموذج الغربي دون تثبّت ، عملا بمقولة " ولوع المغلوب بتقليد الغالب " وتصوّرا بأنّ التراث أو الفكر الديني الذي يعدّ كما يذهب إلى ذلك الفكر الماركسي " أفيون الشعوب " هو الذي أدّى بنا إلى هذه الحال من التخلّف والتقهقر والانحطاط ، وللخروج من دائرة التخلّف وجب القطع مع الفكر الذي أدّى بنا إلى ثقافة الهزيمة ، إذ في إتباع الغرب المتقدّم والسير على دربه هو الكفيل بتحويلنا من أمّة لاهوتيّة متأخّرة إلى شعوب فاعلة في صنع التاريخ ، أسوة بالغرب المتقدّم ، في حين ثلاث صور نمطيّة كبرى صاغها الوعي والمخيّلة المسيحيّة الغربيّة في الزمن الوسيط عن الإسلام . الوثنيّة والعنف والشبقيّة ، بكل ما يفترض ذلك من كفر وتوحّش وانحلال . بهذه الصور تمّ بناء خطاب مسيحي عن الإسلام ، يحتلّ فيه الخيال والجوانب " الفانتزية " مكانة بارزة .ولذلك لا تخلو الكتابات الغربيّة المعاصرة عن هذا الموضوع من تأكيد على أنّ الخطاب المؤسّس للنظرة المسيحيّة الوسيطيّة للإسلام ارتهن بقاموس لفظي ورمزيّ للوهم وللمتخيّل فيه دور بارز، فالوعي الضدّي بالآخر ، والإدراك القويّ بالمنافسة ، وما يفترضه ذلك من الاحتفاظ بالوجود ولّد لدى المؤسّسة الكنسيّة الشعور بضرورة القيام بردّ الفعل . والتجأت من أجل تحقيق ذلك إلى كلّ الوسائل لشحن المتخيّل الجمعي بالصور المضادّة للحقيقة المسيحيّة ، سواء تقدّمت هذه الصور في شكل " صور متخيّلة " تشوّه الإسلام باعتباره عقيدة ، أو " صورا – كاريكاتورية " تضخّم بعض الجوانب الواقعيّة وتصوغها في قالب منفّر ولا أخلاقي أو " في صور انتقائيّة " تجعل من بعض المواقف الإسلاميّة ، ولا سيما في موضوع الجنس ، فرصة للتهويل ، وذلك كلّه قصد إنتاج ردود أفعال رافضة للإسلام في كليّته ، وخلق شروط تعبئة نفسيّة ومعنويّة لمحاربته ، حين تركّز الدعاية التهويليّة المكرورة على الاختلافات والتناقضات ، تولد مشاعر النفور والاستبعاد والرغبة في اللجوء إلى العنف ، وذلك ما جسّدته الظاهرة الصليبيّة في أبعادها الدينيّة والعسكريّة والتخييليّة * وتبنّاها معتنقو الحداثة في ديارنا ، وأصبحوا مستشرقي الهوى أكثر من المستشرقين أنفسهم ، في حين لم نعثر على امتداد النصوص ( القرآن والسنّة ) بما يفيد بأنّ الإسلام ضدّ العلم أو ضدّ إعمال الفكر، أو فيه دعوة صريحة للتوجه نحو إفناء الجسد على طريقة الفلسفة اليونانية " الجسد قبر للروح" أو فيه دعوة صريحة لنسيان الجسد ، والتفنّن في تعذيبه ، وهجرة نحو الروح ، لنطلق فينا صيحة نيتشه " مات الإله " ، فالفكر الإسلامي على عكس الفكر الكنسي الغربي لم يقف سدّا منيعا في وجه من يطالبون بتحقيق هامش من الحريات الفردية ، ثمّ لم يشهد تاريخ الأمّة لحظة جرّمت فيها النصوص الإسلامية العلماء على طريقة محاكم التفتيش أو نصوص تدّعي بأنّ الحاكمية لله ، والخليفة أو الحاكم في الأرض هو ظلّ الله الممدود ، إذ " لا رهبانية في الإسلام " ، ولم تؤسّس النصوص الإسلامية المركزيّة للدولة الدينية ، لكن يعتقد البعض أنّ الحرية كمفهوم فلسفي أخلاقي ... هو مفهوم غربيّ بالأساس وأنّ الحضارات الأخرى لا شأن لها بهذا المفهوم وذلك بسبب التعارض – في رأيهم – بين رؤية كونيّة للعالم متمركزة حول الإله ، ورؤية كونيّة للعالم متمركزة حول الإنسان ، التعارض بين الشريعة والمعايير الحديثة للعلاقات الدوليّة * فالحداثة المطلوبة في مجتمعاتنا "الآن وهنا " هي تلك الحداثة التي توازن بين حرية التفكير والحرية الفردية دون مساس بأمن المجتمع وقيمه ورؤاه ووحدته ، أمّا اعتبار القرآن هو بمثابة النصوص الدينية الغربية ، وجب التخلّي عنه عملا بمقولة " قتل الأب " ، وجعل الدين شأنا فرديّا على الطريقة الكنسيّة ، فهو حيف فكري حكم على الحداثيين أن يعيشوا خارج أسوار المجتمع العربي ، وباءت تجاربهم بالفشل .
تاريخانية الفكر الإسلامي :
تتصّف الدراسات الإسلامية المبنية على خطاب إيديولوجي بنزعة تاريخانية ، وهذه النزعة حكمت على كل هذه الأفكار بأن تعيش بمنطق عود على بدء في علاقتها بالآخر ، ممّا جعلها تقوقع على ذاتها على طريقة الكوجيتو الديكارتي ، مع تكوين صورة نمطيّة حول الغرب لعبت دور المحدّد للعلاقات بجميع مستوياتها ، والصورة النمطيّة هي اختزال كبير لتمثّل مّا ، تقدّم صورة دنيا للمعلومات قصد إنتاج تواصل يمسّ أكبر عدد ممكن من النّاس.إنّ الصورة النمطيّة هي نوع من الملخّص ، من التعبير الشعاري لثقافة مّا ، ولنسق إيديولوجي وثقافي محدّد ، فالإعلاء من شأن المحمول إلى مستوى ما هو جوهريّ يستدعي إجماعا اجتماعيا وثقافيّا واسعا * وهذه الصورة التي ولدت من خلال مراكمة الفكر والمقولات الموجّهة ، حتى ارتقت إلى مستوى الفكرة المركزيّة ، وهي التي تحدّد وحدّدت بالتالي طريقة إقامة مجموعة مّا في العالم ، فكما يعتبر الغرب المسلمين عنوانا للتخلّف والهمجيّة والعنف ( أحداث 11 سبتمبر أنموذجا ) ، يعتبر المسلمون الغرب طرفا استعماريّا كافرا ، وجبت مقاومته حفاظا على مقوّمات الشخصيّة ، كما وجبت مقاطعته ثقافيّا وماديّا ، فهذا الغرب الحاقد على الإسلام كما يتصوّره بعض المسلمين - وخاصة من ينادون بالعودة إلى الزمن الذهبي زمن الصحابة والسلف الصالح – هو دار كفر ولا يجوز التشبّه به ، والأخذ منه ، فهو عدوّ فاحذروه ، أليس هو من أهلك دولا عربية وإسلامية ، مثل العراق و فلسطين وأفغانستان ، وليبيا ، واستنزف خيرات الجزائر ومصر ، وبهذه الصورة القاتمة التي تربط ال"نحن" بالآخر هي التي تحرمنا من الاستفادة منه ، وذلك لما تتّسم به من قطعيّة في الحكم عليه في كليّته ، ولعلّنا من خلال اللغة التي يعتبرها هايدغار " مسكن الوجود " يمكن أن ننفذ إلى قيعان رؤية الأنا للآخر، وما تتّسم به من شعور بالعدائيّة وإرادة الإقصاء والتغييب دفاعا عن الذات من الذوبان والانصهار ، كرفض مفاهيم مركزية مثل الديمقراطية والعلمانية ، والوجودية ، وإدخالها في خانة " ثقافة الكفر " ، وتعاملنا مع قضايانا بصورة انفعاليّة دون تحكيم منطق الواقع يزيد في حدّة الأزمة ، ويعقّد الإشكاليات ، وينمّي معاني الإحباط والعجز عن النهوض الحضاري ، فالبعث الحضاري الذي ننشده لا يتمّ إلاّ من خلال فهم النصّ الموحى ، واستيعاب الواقع المعاصر بعقليّة مستنيرة بروح العصر وثقافته ، ولن يتأتّى ذلك إلا بإعادة طرح الإشكاليات ، والغوص في أبعادها الأكثر غموضا ، وتحديد الأسباب التي أنتجتها دون ما تعصّب أو تطرّف * إذ إبعاد الآخر من دائرة اهتمامنا هو حرمان لنا من رؤية الوجود من كلّ جوانبه ، كما لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نبني حياة بمعزل عن الآخرين بدعوة المحافظة على هويتنا ، لأنّنا نعيش داخل العالم لا خارجه ، واليوم ومع الثورة التقنية التي يشهدها العالم سقطت مقولات الحدود الهوياتية ، وبات العالم برمّته مفتوحا ومخترقا ، بمعنى آخر بات متداخل الثقافات ، أمّا التمسّك بمقولات الأمس ، وتقليد الأمس الذهبي للخروج من أزمة التخلّف ، هو من قبيل اختزال الزمن ، والقفز على الواقع ، كما أنّ الاحتماء برموز الأمس هو فكر يخضع لمقولة ردّ الفعل للخروج من بوتقة الشعور بالنقص أمام ما حقّقه العالم الآخر من تقدّم في عديد المجالات ، وكما يقول بيار بورديو : يستثمر الأفراد والجماعات في نزاعات التصنيف كلّ كيانهم الاجتماعي . كلّ ما يحدّد الفكرة التي يشكّلونها عن أنفسهم ، كلّ اللامفكّر فيه الذي بواسطته يشكّلون ك"نحن" في مقابل "أولئك" أو "الآخرين" . وهم كما يظهر يتمسّكون بها في صورة تضامن شبه عضويّ .وهذا ما يفسّر القوّة التعبويّة الاستثنائية لكلّ ما يمسّ الهويّة * وكأنّ الهويّة شيء محدّد منته لا تخترقه رياح التغيير لا من بين يديه ولا من خلفه . فهل يمكن أن نتحدّث اليوم عن تحقيق خلافة ( نظام حكم ) أسوة بالسلف الصالح ، في ظلّ استراتيجيّات دولية متكاملة حينا متضاربة أحيانا ؟ وهل يستوعب خطابنا الثقافي تقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام ، في حين استطاعت العولمة زعزعة الخطابات الهوياتيّة من داخلها ، ونسف الحدود جغرافيّة ، كما استطاعت بانتشار مفهوم اقتصاد السوق تشتيت الإجماع الهوياتي الذي يعدّ قادحا لانتصار جماعة مّا في الحفاظ على كيانها وتماسك بنيتها المجتمعيّة ، وبالتالي الظهور بمظهر المختلف عن العالم والقادر على التعامل بنديّة مع الأمم الأخرى ، ونقصد هنا بحديثنا تلك الأدبيّة المختزلة للزمن في الأمس السعيد ، وتنادي بالعودة إليه ، ومحاكاته ، في حين يعيش العالم اليوم لحظة ما بعد الحداثة ، هذه اللحظة التي التصقت بمفهوم الموت (موت التاريخ ، موت الكاتب ، موت الإيديولوجيا ، موت العقل، موت الجغرافيا ... ) ، بعض من الفكر الإسلامي - الفكر السلفيّ - هو انتصار لنمط معيّن من المجتمع ، مجتمع يتّصف برفض كلّ ما هو خارج عن دائرة النص ( القرآن والسنة ) وسيرة النبيّ والصحابة ، وهو لعمري فكر يهدّد بغلق باب الاجتهاد وقتل الفكر ، رغم أنّ أمّة الإسلام هي امّة المعتزلة والفرق الكلاميّة والفلاسفة
خلاصة :
إنّ الدول العربية اليوم وبعد الثورات التي أطاحت بثقافة الفكر الواحد ، والقائد الملهم لجديرة بحياة ديمقراطية تنتصر لقيم التعدّد والاختلاف والديمقراطية ، إذ نحن اليوم في حاجة لفكر على طريقة جون جاك روسو في باب التوافق ( عقد اجتماعي يوفّر الوحدة في ظلّ التعدّد ) ، وفي حاجة إلى إعلاء قيم الاجتهاد وإعمال الفكر ، وقراءة النصّ الديني في ضوء المتغيّرات الآنيّة مع الانفتاح على الثقافات الآخر والمنجزات الكونيّة والقيم الإنسانية ، فلا إفراط ، ولا تفريط إن رمنا العيش على وقع زماننا ، ونكون فاعلين في حركة صنع التاريخ.
*مفهوم الثقافة : د سعيد إبراهيم عبد الواحد : ندوة مقررات الثقافة الإسلامية بين واقعها والمتغيرات
*الحريات العامة في الدولة الإسلامية : د.راشد الغنوشي : دار المجتهد للنشر والتوزيع ص24
*النقد مهمّة دائمة : من العقلانية النقدية إلى نقد العقلانية : علي حرب – مجلة نزوى العدد 64-ص12
*نفس المصدر – ص 13
*نفس المصدر ص13
*الغرب المتخيّل : صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط : المركز الثقافي العربي ص 143
*مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني : راشد الغنوشي – دار المجتهد للنشر والتوزيع –ص9
*الغرب المتخيّل : صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط : المركز الثقافي العربي ص 23
*المشروع الإسلاموي المعاصر : نزوع نحو التقدّم أو تفعيل للتأخّر الحضاري – العربي ميلود - كتابات معاصرة عدد 71 ( كانون الثاني – شباط 2009) ص54
*المسألة الهوياتية : الأكثرية والأقلية : بوخريسة بوبكر – كتابات معاصرة عدد 71 ( كانون الثاني – شباط 2009) ص 48