لا شيء للفقراء!
عابدة العظم
لم يترك الأغنياء للفقراء شيئاً، حاصروهم في كل أمر حتى صارت حياتهم خاوية من كل بهجة. الفقراء لم يعد لهم مكان في هذه الدنيا، ولا يحسب حسابهم في النعم ويتحملون وحدهم الغصة والألم، حاصروهم في كل شيء حتى في الحاجات الأساسية: "الطعام والشراب" أغلوا سعره عليهم، و"السكن" ندر وقفزت أسعاره إلى مستويات جنونية، و"الجامعات" لا مكان فيها إلا لمن يدفع ولا حساب للنبوغ والذكاء، بل منعوهم من الخير كله حين بدؤوا يجعلون الدخول إلى "المحاضرات الدينية" العامة كالدخول إلى الدورات؛ أي بدفع النقود ومن لا يدفع يُحرم من سماع ما ينفعه في آخرته. فأي ظلم هذا؟
وحوصر الفقراء في "الترفيه" فلا مكان يذهبون إليه بلا دفع المال سوى الصحراء؛ فالحدائق والمنتزهات تحولت إلى مقاه وكازينوهات. وحرموا كذلك من "التسلية" داخل البيت فأسعار النت ما تزال مرتفعة وبعض القنوات الفضائية مشفرة، ووجهت ضربة للفقراء قبل أعوام حينما حرموهم من مباريات كأس العالم والتي يتمتع الملايين بمشاهدتها وينتظرونها بلهفة بالغة وينسون همومهم وهم يتابعونها (أقولها تعاطفاً فأنا لا أطيق متابعة المباريات!)، وذلك عندما بدأت إحدى الفضائيات المشفرة بفكرة احتكارها، ثم راق الأمر للباقين فحذوا حذوها في احتكار بعض البرامج المفيدة والطريفة.
وأصبح وضع الفقراء بائس ومحزن.
ومن الملاحظ أن دائرة الفقر تتسع كل يوم وقد امتدت لتشمل ذوي الدخل المحدود، وهؤلاء باتوا فقراء في هذا الزمان بسبب الغلاء وتحول الكماليات إلى ضروريات، وبسبب انعدام التعليم المجاني في أكثر الجامعات وندرة العلاج الحكومي، وارتفاع الضرائب، والاضطرار إلى المعاملات المكلفة... وبعض البلاد تتعامل بالرشوة (ويسمونها إكرامية!) فلا يستطيع الفقير إنجاز أي معاملة ولو كانت قانونية إن لم يدفع المبالغ المرقومة لهذا وذاك، فيبقى مظلوماً ولا يحصل إلى حقه بحال.
"المجاني" انتهى من الحياة، كل شيء صار له مقابل: "ماء الشرب" نشتريه بالمال (بعدما تلوثت مياه الصنابير)، والهواء ندفع ثمنه (فلاتر ومُعدلات رطوبة وتبريد)، و"النزهات" صارت مكلفة فلا توجد حدائق عامة وإنما مطاعم وقهاوي، وكلها غالية ولو دخل إليها المرء ليشرب فنجان قهوة هو وعائلته لدفع مئة ريال، فكيف لو تعشوا وطلبوا اللحم والإدام؟
وأصبح التفاوت شديداً فيرى الفقراء الأغنياء يبذخون وينفقون نفقة من لا يقدر قيمة المال ولا يحسب حساباً لنفاده، يصرفونه بلا تفكير، ويسمع الفقراء بأرقام غريبة: أريكة واحدة تتسع لشخصين "بستين ألف ريال"، شنطة يد نسائية "بسبعين ألف"، سيارة "بنصف مليون"... الأغنياء يدفعون المبالغ المرقومة على أمثال هذه السلع، والفقراء لا يجدون الطعام.
أيها الأغنياء
إن إخواننا الفقراء قوم كانوا يوماً في دعة وغنى عن الاستجداء ولكن الزمن جار عليهم، بسبب الجفاف أو البطالة أو عوامل أخرى، ومع الغلاء الفاحش وارتفاع الأسعار عجزوا تماماً عن تأمين لقمة الطعام التي تقيم صلبهم، وقد مات منهم الكثير والباقون على إثرهم ماضون.
من صغري والناس في الشام يرددون هذه العبارة: "لا أحد يموت من الجوع"، وكنا نصدقهم، وها قد عشنا لزمن نرى فيه الناس يقضون أمامنا من الجوع في كل مكان من العالم، فيميتهم الفقر المدقع، وتقتلهم المجاعات والجفاف والفيضانات والظلم.
وهؤلاء الفقراء يحتاجون فقط إلى الطعام، طعام فقط فإذا أكلوا نجوا، الطعام يقيم أودهم ويحفظ حياتهم إنهم لا يحتاجون لعمليات جراحية ولا يحتاجون لمتبرعين بأعضاء حيوية، فأكثرهم خال من الأمراض والعاهات، وجُلهم راضٍ بالسكن في الخيام وفي بيوت الصفيح وراض بطريقة العيش البدائية... ويناشدوننا فقط بإغاثتهم بالطعام، ورغم ذلك نتقاعس عن إعانتهم. ثم نرمي الطعام بلا حساب، ونشتري الكماليات ونحذو حذو الأغنياء ونعيش كذوي الدخول العالية وأكثرنا من متوسطي الحال.
أقول هذا وإني لأعلم بأن الخير لم يعدم بين الناس، وما زال الكثيرون يتبرعون لتمويل "عملية جراحية" لفقير قد تنجح وقد لا تنجح، ويتبرعون لطالب علم قد يتفوق وقد يرسب... وإني أحث هؤلاء الأكارم على التبرع لهؤلاء المهددين بالموت جوعاً بأي شيء تجود به أنفسهم ولو كان الطعام الذي فاض على مائدتهم والذي كانوا ينوون رميه بعد شبعهم.