عن المعارضة ومعضلاتها مرة أخرى
برهان غليون
الوضع المؤسي الذي لا يزال يميز سلوك المعارضة التي لا تكاد تخرج من أزمة حتى تدخل في أزمة جديدة، يثير مشاكل كبيرة للثورة السورية التي تواجه أعظم التحديات في الداخل والخارج. فهو يحبط قطاعات كبيرة من الرأي العام المناصر للثورة بما يؤكده من انعدام النضج عند النخبة السياسية الجديدة الطامحة لقيادة البلاد، وما يبعثه ذلك من قلق ومخاوف على مستقبل الثورة أيضا ومصيرها بعد التضحيات العظيمة التي لم يسبق أن قدمها شعب لنيل حريته وحقوقه الطبيعية. ويساهم هذا الوضع أيضا في تقديم الأعذار للعديد من الدول الصديقة كي تستمر في ترددها في الوفاء بالتزاماتها تجاه الثورة والشعب.
والقول بأن المعارضة قد فقدت رصيدها أو أن على الثوار عدم التطلع إلى معارضة الخارج والتوجه نحو معارضة الداخل أو أن الثورة ليست بحاجة إلى المعارضة بأكملها، ربما "يفش القهر" لكنه لا يقدم حلا. فالرأي العام السوري والدولي يريد أن يرى قيادة سياسية ونخبة وطنية جديدة قادرة على الإمساك بزمام الأمور وإعادة بناء الدولة والمؤسسات وتشغيلها لصالح الشعب وعلى قاعدة العمل القانوني والإداري السليم. واستمرار المعارضة في ممارسات لا تدل على شعور كبير بالمسؤولية الخطيرة التي سوف تقع على من يتصدى لحكم البلاد في مستقبل قريب يطرح على المجتمع السوري والمجتمع الدولي معا تحديات لا نستطيع الهرب من مواجهتها.
هناك في نظري سببان رئيسيان لهذا التشتت في الصف والرأي والاعتبار لدى المعارضة. الاول هو غياب الثقافة والخبرة السياسيين الناجمين عن تعطيل الحياة السياسية لعقود طويلة في بلادنا. فحتى الاعضاء القادمين من الاحزاب السياسية القديمة ليست لديهم خبرة سياسية حقيقية لانهم لم يحظوا في التاريخ الماضي كله بأي فرصة للتواصل الطبيعي مع الشعب ولا معرفة آليات تسيير المؤسسات وخدمة الدولة والشأن العام. واقتصرت تجربة الناشطين السياسيين السوريين خلال الحقبة الطويلة الماضية كلها على الحفاظ على البقاء في مواجهة إرهاب الدولة وأجهزة الأمن بالاضافة إلى الحفاظ على سلامة العقل والبدن خلال سنوات السجن الطويلة التي فاقت في بعض الأحيان نصف حياة الناشطين وأحيانا أكثر.
أما السبب الثاني فهو تمادي الدول الصديقة في تدخلاتها من أجل ترتيب أوضاع المعارضة بدءا من التدخل السياسي إلى التدخل العملي، مستفيدة من هذا التشتت في الرأي والصف السوري المعارض. فباسم العمل على توحيدها، نجحت الدول الصديقة في استتباع أطراف عديدة منها ووضع واحدتها في مواجهة الأخرى وإملاء أجندات خاصة بها بصورة غير مباشرة، وأحيانا مباشرة، تشكل عقبة كبرى أمام بلورة أجندة وطنية جامعة وتمنع من نشوء آلية ناجعة وفعالة للتشاور واتخاذ القرار داخل التشكيلات القائمة. والنتيجة تشويش كامل في الصورة وشعور متزايد بالاحباط ليس عند الرأي العام السوري والدولي فحسب وإنما لدى أعضاء المعارضة أنفسهم. ولولا الشعور بالواجب لغادر صفوفها غير آسف القسم الأكبر من الأفراد المستقلين الذين بدأوا ييأسون من غياب التقدم وروح الاحتراف والمهنية في عمل المعارضة وتفكيرها.
هذه أحدى المعضلات التي يتوجب علينا مواجتها لأنها سوف ترافقنا إلى ما بعد سقوط النظام وسوف تشكل عقبة كأداء أمام اي تقدم نامل إحرازه وتهدد كل الانجازات التي حققناها من خلال هذه الثورة الشعبية العظيمة. وليس هناك حل سحري لهذه المعضلة إلا الاستثمار في الفكر والثقافة السياسية والمدنية وبناء الوعي الوطني والديمقراطي منذ الآن، وتوسيع إطار الحوار والمشاورات واللقاءات بين أطراف المعارضة المختلفة، وهدم الأسوار التي أقامها الشك والحذر وعدم الثقة بين الأفراد والجماعات. لكن شرط نجاح هذا التواصل في الوصول إلى نتائج مثمرة من توحيد الفكر وتصفية النوايا وتعزيز الثقة المتبادلة هو توحيد الأولويات وبناء أولويات وطنية واضحة ومجمع عليها، مما يعني ويستدعي أيضا الاستقلال عن الدول والقوى الأجنبية التي يستند إليها نشوء الأجندات الخاصة وتنافسها أيضا. مرة أخرى الإستقلال في الرأي والموقف هو شرط توحيد النخبة والمعارضة والصف الوطني معا.