السوريون يرفضون اختزال قضيتهم بالإغاثة

السوريون يرفضون اختزال قضيتهم بالإغاثة

محمد علي شاهين

[email protected]

لم تتوقف موجات نزوح السوريين إلى دول الجوار منذ اندلاع ثورة الكرامة، حتى وصلت مخيّمات اللجوء إلى طاقتها الاستيعابيّة القصوى، وارتفعت كلفة استضافة اللاجئين السوريين في دول الجوار فبلغت مليارات الدولارات، حتى ضجّت الحكومات وطالبت بحل سريع لهذه المشكلة المتفاقمة.

فبالإضافة إلى الآلام والخسائر الماديّة والبشريّة التي تكبدها السوريّون، زاحموا المؤسّسات الصحيّة والتعليميّة والخدميّة في دول اللجوء، فلم نسمع منهم كلمة شكوى أو تأفّف، حتى أطفال المدارس تقاسموا مقاعد الدرس مع أشقائهم أطفال اللاجئين.

فتحت لهم الشعوب قلبها الكبير، وتقاسمت معهم الرغيف، ووفّرت السلطات لهم الملاذ الآمن، واعتبرتهم ضيوفاً، وعاملتهم على هذا الأساس، لأنّ الجميع أدركوا حجم المعاناة والظلم الذي يتعرّض له السوريون في ديارهم، فجعلهم يفرّون بجراحهم الجسديّة والنفسيّة، تاركين خلفهم بيوتهم الدافئة، وطعامهم الوفير، ومياههم الجارية، وحدائقهم الغناء.

فرّوا بأرواحهم من الغارات الجويّة، والقصف براجمات الصواريخ، والبراميل المتفجّرة، والقنابل الفوسفوريّة، والعنقوديّة، والفراغيّة، ولم يعطهم الشرير فرصة لانتشال جثث الضحايا من تحت الأنقاض، وما أكثر نكبات الشرير، "كثيرة هي نكبات الشرير أمّا المتوكل على الرب فالرحمة تحيط به".

فرّوا بأرواحهم وأعراضهم حتى سكنوا الكهوف ورؤوس الجبال، وخرجوا هائمين على وجوههم حتى بلغوا حدود الأردن ولبنان وتركيّا والعراق، وبلغوا أقصى الأرض، وارتفع عدد اللاجئين السوريين في السويد عشرة أضعاف خلال السنتين الماضيتين.

ورفض بعض الأحرار إطلاق النار على شعبه فانشقّ عن النظام المجرم، وآثر الانضمام إلى كتائب الثورة، أو الالتحاق بأسرته خارج حدود الوطن. 

فرّوا من الظلم والقهر، ومن المداهمات والاعتقالات، واستباحة البلاد، ونهب الثروات.

فرّوا من الذل، متمثّلين بقول الشاعر:

ولا يقيم على ذل يراد به

 

إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخف مربوط برمته

 

وذا يشج فلا يرثي له أحد

ومن يصبر على الذل إلا الحمار فهو يركب ويضرب ويربط ذليلاً كليلاً، وطنب الخيمة (الوتد) الذي يضرب بالمطرقة على أم رأسه فيذل للضرب وينزل إلى أسفل.

وطال زمن المعاناة، وتخاذل المجتمع الدولي تجاه القضيّة السوريّة، وصمت على جرائم النظام، مما شجعه على ارتكاب المزيد من الجرائم، وظنّ العالم أنّه يتعامل مع نظام سوي، فمنحه الفرصة تلو الأخرى، لكنّه ازداد شراسة وحقداً، وظنّ أنّه قادر على كبح جماح السورييبن.

واتسعت مأساة السوريين ومعاناتهم مع هذا النظام الحقود، وامتدت إلى خارج حدود الوطن، وكانت مأساة اللاجئين أكبر من قدرة وإمكانية الهيئات الخيريّة والمنظّمات الإنسانيّة التي هبّت لتقديم المال والطعام والغوث الطبي.

وظنّ البعض أنّ مشكلة اللاجئين المستفحلة وقد دخلت النفق المظلم، يمكن حلّها من خلال صناديق الدول المانحة، وزيادة الدعم المالي، واستبدال الخيم القماشيّة بالكارفانات، لتصمد أمام زمجرة الرياح، وعواصف الثلج، ووميض البرق، في ليالي المخيّمات الحالكة، متناسين جوهر المشكلة الأساسيّة لهذه المأساة، ألا وهي علاج السبب الذي من أجله هجر السوريون ديارهم إلى منافيهم البعيدة في القفار، طلباً للحريّة والأمن التي افتقدوها في بلادهم.   

وينظر كافّة السوريين إلى الدول والمنظّمات الإنسانيّة والأهليّة التي استقبلتهم ومدّت أيديها إليهم، وضمّدت جراحهم، وخفّفت معاناتهم من دوامة العنف التي بدأها النظام القمعي، بتقديم المساعدات الماديّة والعينيّة إلى المحتاجين منهم، بالشكر والامتنان، ويطالبون المجتمع الدولي بمضاعفة الجهود الإقليميّة والدوليّة لتخفيف المعاناة، وانتزاع المؤسّسات الصحيّة من قبضة النظام، وإيصال المساعدات الإنسانيّة إلى المناطق المحاصرة والمتضرّرة بصورة كاملة دون أي عوائق، وتنسيق جهود الإغاثة الدوليّة، ومنع النظام من الاستيلاء على المساعدات خشية توزيعها على شبيحته وأعوانه.

وهم في نفس الوقت يرفضون أن يكونوا عالة على الأمم والشعوب، ويأبون أن يشكّلوا عبئاً إضافيّاً على خزائن الدول التي تستضيفهم، ويطالبون العالم بوقفة جريئة تضع حداً لمعاناتهم،  وذلك بحمايتهم ورد العدوان الهمجي عنهم، ليعودوا إلى ديارهم سالمين.

ويرفض السوريون أن تكون بلادهم ساحة مفتوحة لصراع طويل بين الشرق والغرب، أو جزءاً من حرب باردة جديدة بين روسيا وأمريكا، أو بين القوميّتين الفارسيّة والعربيّة، أو حتى بين السنّة والشيعة، تتجدّد في ثنايا فصول حلبتها الأحقاد التاريخيّة والمذهبيّة، يطول خلالها عمر النظام، ويزداد فيها بؤس النازحين واللاجئين.

ويرفض الشاميّ داخل مخيّمات اللجوء رغم بؤسه الشديد وشقائه صدقة البخيل، ومنّ حاتم الطائي، ويأنف السوري أن يراق ماء وجهه، وأن يصطفّ في طوابير الجوعى يحمل قصعة الطعام ليسدّ بها رمقه، ويأبى أن يدفع المجتمع الدولي فاتورة جرائم النظام، ويرفض السوريّون أن تبنى لهم مساكن دائمة في ديار الشتات، لأنّهم يريدون العودة إلى منازلهم، ويأنف أطفالهم أن تشيّد لهم مدارس داخل  مخيمات اللجوء لأنّهم يصرّون على العودة إلى مدارسهم، ويأبى الأتقياء إلاّ أن يعيدوا بناء مساجدهم المهدّمة في المدن والقرى السوريّة المدمّرة التي فارقوها، ليرفعوا الأذان الشجي فوق القباب الخضر والمآذن الشامخات.