لماذا تخاف الإمبراطورية الفرنسية من مجلة الفتح؟

أ.د مولود عويمر*

في الأسبوع الثالث من ديسمبر 2011 الذي تزامن مع عطلة فصل الشتاء زرت مركز الأرشيف بوهران بحثا عن جريدتين إصلاحيتين صدرتا في هذه المدينة في الثلاثينات، ولم يبق لها –للأسف- أثر في المكتبات الكبرى ومراكز الوثائق المعروفة في الجزائر. الجريدة الأولى هي "المغرب العربي" أشرف على تحريرها الشيخ حمزة بوكوشة في عام 1937. وأما الصحيفة الثانية فهي "الوفاق" للشيخ محمد السعيد الزاهري وقد صدرت بين 1938 و1940.

وبعد أسبوع من البحث لم أجد أي عدد منها. غير أن جهودي لم تذهب عبثا، "فرب ضارة نافعة" حيث اطلعت على مجموعة تقارير ومراسلات أكدت لي ما كنت أعرفه عن مراقبة الإدارة الاستعمارية للجرائد العربية الصادرة في الجزائر، وكشفت لي ما لا أعرفه من مضايقتها للصحف القادمة إليها من العالم العربي.

لقد كانت مراصد الاستعمار التي تعتبر كل جريدة مكتوبة بالعربية أخطر عليها من المدفع تراقب باستمرار حركة نشر وتوزيع غالبية الجرائد العربية وتسجل أسماء قرائها وكتابها لمضايقتهم ومساومتهم في وقت الحاجة. وكانت مجلة "الفتح" التي أصدرها الأستاذ محب الدين الخطيب في القاهرة أكثر الصحف التي تناولتها الوثائق التي اطلعت عليها.

وهكذا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لماذا تخاف فرنسا الاستعمارية من الصحافة العربية بشكل عام، ومجلة الفتح بشكل خاص؟

 

مجلة الفتح ومؤسسها في سطور

ولد العالم المصلح السوري محب الدين الخطيب في جويلية 1886 م في دمشق، و توفي في 1 ديسمبر 1969 بالقاهرة. تتلمذ على العالم الزواوي المهاجر الشيخ طاهر الجزائري أحد رواد النهضة العربية الحديثة وتأثر به كثيرا. وقد قال الخطيب في هذا الشأن: " ومن نعم الله على كاتب هذه السطور أنه عرف الشيخ طاهر من طفولته واتخذه أبا (...) فعرفت طريقي بتوجيهه ونظرت إلى أهدافي بعينه، وحررت رسالتي في الحياة بالذوق والمشرب اللذين اقتبستهما منه."

وتعرف الأستاذ الخطيب على الشيخ الطيب العقبي في الحجاز أثناء الثورة العربية. كما احتك أيضا بالعلماء والمصلحين المغاربة خاصة خلال إقامته الطويلة في مصر، كالشيخ محمد الخضر حسين ومحمد البشير الإبراهيمي، الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي والشيخ إبراهيم أطفيش وسليمان باشا الباروني...الخ.

وهكذا نشأ الخطيب في الوسط الثقافي المغربي وبقي ملتزما بقضايا المغرب العربي طوال حياته، فكتب عنه مقالات كثيرة ونشر كتبا عن نضاله، وفتح لرجاله مجلته "الفتح" وغيرها من الصحف التي كان يشرف عليها للتعريف بقضاياهم الوطنية وتوعية العالم بمطالبهم العادلة، وجذب دعم المسلمين لنضالهم من أجل تحرير أوطانهم.

ساهم الأستاذ الخطيب في الصحافة مبكرا وهو مازال طالبا حيث نشر مقالاته الأولى في صحيفة "قمار الفنون" البيروتية لصاحبها أحمد حسن طبارة. وكتب بعد ذلك في أشهر الصحف والمجلات العربية ك "المؤيد" و"الأهرام" و"المنار"، وأدار صحيفتي "القبلة" (1916) المكية، و "العاصمة" (1918) الدمشقية، و"مجلة الأزهر" (1952-1958).

وأنشأ جريدة "الزهراء" في أوت 1914. كما أسس مجلة "الفتح" التي تهمنا في هذا المقال في 29 ذي القعدة 1344 هـ/ 10 جوان 1926. ولم تتوقف إلا في ذي الحجة 1367 هـ/ 1948م. وهي مجموعة في 18 مجلدا تضم أكثر من عشرين ألف صفحة.

لقد كانت مجلة "الفتح" مدرسة في الصحافة ونضال الكلمة في النصف الأول من القرن العشرين نظرا للقضايا المختلفة التي عالجتها، وتعدد كتابها الذين ساهموا فيها بمقالاتهم وأفكارهم من كل أنحاء العالم الإسلامي.

وكتب في هذا السياق الأستاذ أنور الجندي: "وتبرز حقيقتان كبيرتان عند مراجعة هذه الصحيفة: الأولى أنه ما من قضية كبرى من قضايا العالم الإسلامي ظهرت في تلك الفترة إلا اهتمت بها "الفتح" و عنيت بها، الثانية أنه ما من كاتب معروف الآن في العالم العربي أو الإسلامي إلا وقد كتب في الفتح في مطالع شبابه".

ولا أخفي على القارئ أنني استمتعت بقراءة مقالات لمفكرين وعلماء مسلمين من أوربا الشرقية والصين ساهموا في هذه المجلة الإسلامية بكل ما تعنيه هذه الصفة من معان وقيم.

 

مجلة الفتح وقضايا التحرر

اهتمت مجلة الفتح بالثقافة والدين والاجتماع والتراث، كما عالجت قضايا سياسية وتحررية. فلا يخلو عدد منها من مقالات في مقارعة الاستعمار وكشف أطماعه في العالم العربي والإسلامي وتعرية إستراتجيته الرامية إلى ترسيخ التخلف فيه.

وقد ساهمت في هذه التوعية أقلام معروفة من المغرب العربي أذكر منهم: محمد الخضر حسين، إبراهيم أطفيش، أحمد توفيق المدني، ومحمد السعيد الزاهري وأبو يعلى الزواوي من الجزائر، وعبد العزيز الثعالبي و محي الدين القليبي ومحمد الطاهر بن عاشور من تونس، ومحمد تقي الدين الهلالي وأحمد بلفريج ومحمد مكي الناصري من المغرب، وسليمان الباروني من ليبيا...الخ.

وساهم أيضا في بث الوعي واستنهاض الهمم لنصرة قضايا المغرب العربي ونشر ثقافته شخصيات عربية وإسلامية مرموقة أذكر هنا بالإضافة إلى محب الدين الخطيب الأمير شكيب أرسلان وأحمد زكي باشا.

وإذا كان أرسلان قد دافع عن الأمير عبد القادر ضد خصومه، فإن أحمد زكي تحدث عن فضائح مائة سنة من الاستعمار في الجزائر.

ويقول الباحث الجزائري الدكتور صالح خرفي مبينا البعد الإسلامي لهذه المجلة واهتمامها بالمغرب العربي وتضامنها الدائم مع قضاياه بأقلام رجال الدين والثقافة والسياسة العرب والمسلمين: " وكانت مجلة الفتح للمرحوم محب الدين الخطيب في العشرينات سباقة في هذا التوجه نحو المغرب العربي و قضاياه، والتفتح على معاناة هذه المنطقة في مواجهة المحتل ومدافعة أذنابه، ومؤازرة الصحوة الإسلامية والحركات الإصلاحية في أقطار الشمال الإفريقي. وكان البعد الإسلامي لمجلة الخطيب هو الذي يشدها إلى هذه الربوع، فتعاطفت معها الحركات السلفية، ونقلت عنها. وساهم رجالها في تحرير صفحاتها، وصياغة افتتاحيات بعض أعدادها."

وقامت مجلة "الفتح" بحملة واسعة على السياسة الفرنسية في المغرب العربي خاصة بعد أن دقت طبول الاحتفالات الصاخبة بذكرى مرور مائة سنة على احتلال الجزائر، وصدور الظهير البربري في المغرب الأقصى الرامي إلى فصل البربر عن الإسلام، وانعقاد مؤتمر الأفخارستي في قرطاج بتونس لترسيخ جذور المسيحية في تونس وتشجيع الحركة التبشيرية فيها.

لقد نشرت "الفتح" مقالات وأخبارا عن هذا الحراك الاستعماري في عام 1930 وكشفت أمام الرأي العالمي حقائقه المضمرة، وفطّنت كل الغافلين وأيقظت كل النائمين الذين لم يستوعبوا الأهداف الحضارية للاحتلال الأجنبي، وتقاعسوا في الدفاع عن مقوماتهم والكفاح من أجل تحرير أوطانهم. 

وتنشر مجلة "الفتح" أخبارا عن أوضاع الجزائر، ومنها خبر مطالبة مدير الشؤون الأهلية ميرانت الشيخ ابن باديس بالاستقالة من رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وتهديده إن رفض بمعاقبته.

وقد رفض ابن باديس لأن ليس هناك خروج عن القانون وإيذاء الناس. وهو خبر صحيح انفردت به هذه المجلة. وهي التي ستعلن فيما بعد أن ابن باديس مات مسموما في عام 1940 على لسان الدكتور محمد تقي الدين الهلالي.

كما تابعت حوادث قسنطينة في عام 1934 التي اندلعت بين المسلمين واليهود، فنشرت مقالات وأخبارا عن تحيز السلطة الفرنسية إلى اليهود رغم ظلمهم وإصرارهم على الاعتداء على غيرهم بغير حق. وأوردت في هذا السياق (العدد 410) خبر إقامة صلاة الغائب في فلسطين على "شهداء الجزائر" ضحايا "القتال والنار".

وكانت الصحف العربية في الجزائر متأثرة بخط مجلة الفتح ومعجبة بمساهمات كتابها من مختلف الدول العربية والإسلامية، تحرص لذلك على نقل مقالات من هذه المجلة لقرائها خاصة قبل عام 1930.

ووفاء لهذا الرجل نشرت مجلة الثقافة الجزائرية مذكرات محب الدين الخطيب في عشر حلقات ما بين 1976 و1977. وهي تغطي مرحلة قصيرة من حياة هذا المصلح الرائد. وقد قال الأستاذ الخطيب للدكتور خرفي – رئيس التحرير- وهو يسلم له مذكراته التي كتبها بخط يديه: " خذ ما تشاء من هذه المذكرات وانشر منها ما تشاء، ولا تعجب فإنكم تفهمونني هناك، أكثر مما يفهمونني هنا."

وهكذا بقي دائما الأستاذ الخطيب مجاهدا بقلمه ولسانه، ووفيا للجزائر التي أحبها بعد أن تعرف عليها من خلال خيرة أبنائها العالمين العاملين.

الإدارة الاستعمارية تصادر مجلة الفتح:

اعتبرت الإدارة الاستعمارية مجلة الفتح خطيرة لأنها تهدد في نظرها مصالحها وسياستها ومشروعها في الجزائر. وقد صدر قرار من وزير الداخلية الفرنسي في 20 فبراير 1930 بمصادرتها لأنها ذات توجه مضاد للأمن العام في أوساط أهالي الجزائر. ويأمر هذا القرار الوزاري يأمر كل المسؤولين في الجزائر بمنع تداول مجلة الفتح وحجز كل الأعداد الموجودة ومعاقبة كل من يقف وراء توزيعها.

وتطبيقا لهذا القرار، راسل المقيم العام في الجزائر والي وهران ليقدم له معلومات عن مسالك هذه المجلة من القاهرة إلى الجزائر، ومدى أهمية انتشارها في الغرب الجزائري وتحديد أسماء الذين يقرؤونها، والاستعلام عن كتاب " الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير " الذي نشره الشيخ الزاهري في مجلة الفتح في عدة حلقات. وهو يمثل في نظر الإدارة الفرنسية محاولة للتشكيك في انجازات فرنسا في الجزائر. وطلب كذلك مراقبة هذا المثقف المتمرد.

وردت مراصد المراقبة وجهاز الاستعلامات أن الكتاب متداولا فعلا في وهران وعثر على نسخة منه عند الأستاذ الطيب المهاجي معلم بمدرسة وهران. كما أشارت مراسلة مدير بريد وهران إلى الوالي وصول المجلة باستمرار إلى ثلاثة أشخاص وهم: محمد السعيد الزاهري والحاج صدوق المهاجي ورقيق حمزة.

وفي مراسلة سرية أعلم رئيس دائرة تلمسان والي وهران بحجز 7 نسخ من مجلة الفتح في تلمسان وجدتها الشرطة عند محمد بن عثمان. وقد برأت المحكمة هذا الأخير بعد أن تبين للقاضي أن النسخ المصادرة قديمة صدرت قبل تاريخ القرار السابق لوزير الداخلية الفرنسي، وأطلق سراحه ولكنه بقي مراقبا من الأمن الفرنسي بشكل سري من طرف أعوانه وجواسيسه.

كما تعرضت مجلة الفتح لمضايقات في مقرها في مصر بسبب توجهها النقدي وجرأتها على فضح الاستعمار وأعوانه من جهة، وضغوطات من بريطانيا وفرنسا من جهة أخرى.

ولم يتقيد الشيخ عبد الحميد بن باديس بقرار المنع والمصادرة فواصل نشر مقالات الأستاذ محب الدين الخطيب في مجلته الشهرية "الشهاب" واقتباس مقالات من مجلة الفتح لكتاب آخرين معتبرا تلك الإجراءات القانونية تتناقض مع قانون الصحافة وتتعارض مع مبدأ حرية الرأي والتفكير الذي تكرسه الحكومة الفرنسية في فرنسا وتدنسه في مستعمراتها بشكل عام والجزائر بشكل خاص.

فما تعس إمبراطورية تخاف من جريدة حرة تصدر بعيدا عن أراضيها فتمنع وصولها إلى شعوب تزعم أنها استعمرتها لتحضّرها، واستعبدتها من أجل أن تنقل إليها المدنية الحديثة!!!

*أستاذ التعليم العالي بجامعة الجزائر 2