مآس عراقية ترويها الطيور الصفر

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

كثيرة هي المآسي التي خلفتها الغارات الجوية الأمريكية على العراق, وكثيرة هي الفضائح التي ارتكبتها قوات التحالف في المدن العراقية, وكلها مساحات للقلم ليعبر عن ويلاتها ومصائبها وكوارثها, لكنها كُتبت هذه المرة برعاف قلم مرتعش يحمله جندي أمريكي مذعور, كان يؤدي خدمته الإلزامية في كتيبة مدفعية الميدان المتجحفلة في (تلعفر), من ضواحي مدينة الموصل, عندما كان عمرة ثمانية عشر عاما, للمدة من 2004 إلى 2005. .

تحت زئير الدبابات, وعصف القصف الجوي العنيف, وصراخ الجرحى, وصوت المجنزرات المتوحشة, والانفجارات المدوية في ظلمة الليل المخيف, أبدع الجندي الأمريكي المستجد (كيفن باورز Kevin powers) في سرد روايته الأولى, التي حملت عنوان (الطيور الصفر Yellow Birds), والتي عدها النقاد واحدة من أروع قصص الحرب, فوضعوها إلى جوار رواية الروائي الأمريكي (تيم أوبراين O'Brien), التي حملت عنوان (Going after Cacciato), وكانت مستوحاة من تجربته الميدانية في حرب فيتنام, وصنفت قبل أكثر من ثلاثة عقود كأحسن رواية لعام 1978. .

بيد أن رواية (الطيور الصفر) تختلف في بنائها التراجيدي عن رواية (أوبراين), كونها تجمع تراكمات رهبة الموت في مشاهد مروعة خاضها الكاتب بنفسه, وعاش تفاصيلها في حقول قرى (تلعفر), حيث يختبئ الموت تحت القناطر الصغيرة, وخلف الأشجار المؤازرة لجيوب المقاومة, وفوق سطوح المنازل الريفية العتيقة, وفي البيادر والنواعير المتناثرة هنا وهناك.   

كان (كيفن) قلقا خائفا, تطارده عفاريت المقابر, وتخنقه كوابيس الحروب الكاسحة, فيرى جسده ممزقا بقنبلة مزروعة في طريق العودة إلى المعسكر, أو يفقد ذراعه أو ساقه بلغم صغير تخبئه له الأقدار في البستان القريب من برج المراقبة, أو يخسر بصره بانفجار حارق يشوه ملامحه, أو تتهشم أسنانه ويفقد أنفه باصطدام مدبر وسط المدينة الرافضة للغزاة. .

يذكر انه ظل وزملائه الجنود مستيقظين خائفين حتى نهار اليوم التالي, كانوا على موعد وشيك مع شبح الموت الذي تربص بهم بباب ملجأهم الحصين, فقاوموا النعاس بأقراص المنشطات, ومنهم من استسلم للموت بحبوب الهلوسة. .

لم تمنحهم معدات الرصد والمراقبة الالكترونية الحصانة النفسية لاكتساب درجة الشجاعة والثقة في مواجهة الأخطار المحدقة, ولم توفر لهم المدرعات المصفحة بالحديد والفولاذ القدرة على الصمود لليلة واحدة. .

اختار (كيفن) الجندي (جون بارتل) بطلا لروايته, وجعله يروي وقائع الأحداث المتسارعة بخطوات مثقلة بالخوف المدمر, فيقول: كان العراقيون يختفون بعد كل غارة في القرى والبساتين المحيطة بنا, فنفتشها بحثا عنهم, فلم نجدهم, ونعود مرة أخرى للتفتيش فلم نعثر لهم على أثر, لكنهم كانوا يخرجون من تحت الأرض فيمطروننا بوابل رصاصهم, ثم يختفون في جوف الليل, بينما تواصل مدفعيتنا قصف القرى القريبة, قصفا عشوائياً هستيرياً لساعات وساعات, في محاولة يائسة لاتقاء خطر الأشباح المسلحة بمدافع المورتر. .

في النهار يلوحون لنا بالتحية, ويدعوننا لشرب الشاي في مقاهيهم الشعبية, بابتسامة ودودة لا تفارق وجوههم, فنتنفس الصعداء, ونهرع لتوزيع الحلوى على الأطفال في تقاطعات المدينة, لكننا نعود في اليوم التالي إلى التقاطعات نفسها لتنفجر علينا عبوة ناسفة, فنستأنف الرمي العشوائي من فوهات بنادقنا المرتعشة, وننسحب على الفور لنختبئ من جديد مثل الجرذان في ثكناتنا المحصنة بالسواتر الخراسانية. .

فقد بطل الرواية (جون بارتل) مشاعره الإنسانية كلها, وتحول في خضم المعارك المتجددة إلى كائن مدمر, فاجتمع في وحدته العسكرية بصديق طفولته (مورفي) من ولاية فرجينيا, لكنه ارتبط بصداقة عبثية مع العريف المجنون (ستيرلنغ), الذي كان متماديا في قتل العراقيين من دون سبب, ومن دون تفريق بين صغير وكبير, أو بين رجل وامرأة, وبصرف النظر عن مقدار الخطورة التي يشكلونها, فهو يرى في قتلهم وسيلة دفاعية مشروعة للتخلص من مخاطرهم. .

لم يتفق الجندي (جون بارتل) مع زميله (ستيرلنغ), ولم يكن مقتنعا بما يقترفه من جرائم لا مبرر لها, لكنه وجد نفسه مرتبطا به ارتباطا حميما في مواجهة الموت بملامحه البشعة, فقد كان (ستيرلنغ) يؤمن له الحماية التيفرضتها ظروف المواجهات المسلحة, حتى صار قتل العراقيين عندهم عادة يومية يمارسونها من باب الهواية وهدر الوقت. . .

عاد الجندي (بارتل) إلى بلاده عن طريق القواعد الأمريكية في ألمانيا, فخرج من القاعدة في زيارة خاطفة لأقرب كنيسة, دخل باحتها الأمامية ووقف متسمرا أمام لوحة كبيرة للقديس (سباستيان) بصدره العاري, وملامحه البريئة, وقد اخترقت جسده السهام المميتة, حتى سالت الدماء من صدره, وتجمدت فوق جراحه النازفة مثل حبات الشمع المنسابة حول قناديل الشمع المتوهجة بالنور. .

وقف (بارتل) مصدوماً نادماً مذهولاً أمام لوحة القديس سباستيان, فتذكر الأرواح العراقية البريئة التي حصدتها النيران الأمريكية من غير ذنب, وتذكر حجم المأساة التي تسببت بها الفيالق الأمريكية الزاحفة شرقاُ نحو المدن العراقية. .

لقد سجل الروائي (كيفن باورز) نجاحا كبيراً عندما نقل للقراء تلك المشاهد المأساوية الصادقة عن المصائب والويلات التي مرت بالعراق, فأعيد طباعة الرواية مرتين بعد ظهورها لأول مرة ببضعة أشهر, ومن المؤمل استثمارها سينمائيا في فيلم حربي تنتجه هوليوود قريباً. . 

لم يكن (كيفن باورز) كاتبا محترفاً, لكنه استطاع أن يكون شاهداً على القتل العشوائي, الذي استهدف الناس في العراق على اختلاف أعمارهم وأجناسهم, واستطاع أن يصور الوجه الحقيقي للمأساة من خلال المشاهد الواقعية المتكررة التي حملتها الرواية, واستعرضت فيها جرائم الحروب الباطلة, وبينت كيف تورط الغرب الطائش في حرب مستهترة كان العراقيون فيها هم الحطب وهم الكبريت وهم الضحية. . .