لا مكان لنا بين التماسيح
لا مكان لنا بين التماسيح
كاظم فنجان الحمامي
كانت صدمة كبيرة لي عندما شاهدته يتجول بمفرده مساءً في السوق بدشداشته البيتية العتيقة, بدا لي حذرا منطويا كئيباً, يتحاشى نظرات الناس, اختار التسوق بعد الغروب من الأكشاك الرخيصة, بعد أن احتجزه راتبه التقاعدي في خندق الفقر والتعفف بموجب أحكام القوانين القديمة, على الرغم من انه كان رئيسا لأكبر الأقسام الهندسية في إحدى المؤسسات الحكومية الكبيرة. .
وقف في زمن الازدهار والتألق في طليعة المهندسين الرواد, الذين أسهموا إسهاما ملموساً في بناء صروح القواعد الوطنية الإنتاجية, لكنه غادر موقعه الرفيع, بعد إحالته إلى التقاعد, مرفوع الرأس, ناصع الجبين, وكان سجله المهني والإداري أنظف من ثلوج إيفرست, لم يكن تمساحا من التماسيح, التي تكاثرت هذه الأيام في مستنقعات اللغف واللهبنة والثراء الفاحش, كان إنسانا بسيطا متواضعا كرس حياته كلها لبيته وعمله, لا يملك من حطام الدنيا غير سمعته الطيبة, وهذا هو سر شعوره بالغربة في البلد الذي تكاثرت فيه التماسيح من كل صنف ولون. .
أتعس ما نمر به اليوم هو شعورنا بالغربة داخل بيوتنا وأوطاننا, وشعورنا بالخذلان بين أهلنا وذوينا, أما كيف تكون الغربة في الوطن ؟, وكيف يعيش الإنسان غريبا في بلده ؟, فتلك مسألة لا يفهمها, ولا يحس بها إلا نحن الذين عشنا في العراق تعساء في أوطاننا, تعساء في منافينا, تعساء في نومنا, تعساء في يقظتنا, وكأننا خلقنا تعساء, وكتب علينا أن نعيش غرباء, ونموت غرباء, وكأن الغربة ولدت في ذاتنا, وترعرعت معنا, تنتقل معنا كالظل حيثما نكون, وستبقى معنا أينما نحل, فالغربة سر تعاستنا, وهي اكبر كوابيسنا اليومية المزعجة.
نحن غرباء في العراق لأن معظمنا لا ينتمي إلى العشائر المستبدة المتجبرة, التي ماانفكت تتمسك بشعار: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وتتفاخر بهذا الشعار في مجتمع اعتادت فيه الأسماك الكبيرة على ابتلاع الأسماك الصغيرة.
نعيش في عزلة تامة لأننا لا ننتمي إلى الأحزاب المتنفذة, التي جثمت على صدورنا وتلاعبت بمصيرنا منذ بدايات القرن الماضي, وأسست في وطننا قواعد هذا البنيان السياسي الفوضوي المصطنع, فشهدنا وقائع مسلسل السنوات الخداعات, التي كان يؤتمن فيها الخائن, ويخوّن الأمين, ويُصدّق فيها الكاذب, ويُكذّب الصادق, حتى تسيد علينا أراذل الناس من الوصوليين والانتهازيين, وافترستنا الغربة حينما ضاعت في وطننا معايير التقييم والترقية, وتسلق فوق أكتافنا أصحاب الوجوه الزئبقية والمواقف الهلامية. وتسيد الأميون والفاشلون على ذوي الكفاءات وأساتذة الجامعات.
تجرّعنا مرارة الغربة وآلامها, وشربنا من انهار عذاباتها منذ زمن بعيد, حتى أكلت الغربة ريع أعمارنا ولم تشبع, فطحنّاها بالعمل والأمل ولم تشبع, ثم سقيناها بالصبر والإيمان ولم تشبع, ورثنا عن أجدادنا الأوجاع القديمة كلها, رضعناها حليبا من أثداء الرافدين, صارت عندنا اليوم جيوش من الأرامل, وأبناء لم يسمعوا شيئا عن آبائهم, في العراق أفراحنا عزاء, وليالينا هموم تتكدس فوق بعضها, نخشى أن نضحك حتى في السر, فالضحك عند معظمنا من الممنوعات, وعند بعضنا من المحرمات.
يُخيل إلينا أحيانا أننا نعيش في سيرك تنكري كبير فقدت فيه القيم, وضاعت فيه المبادئ, وانتهكت فيه المعاني والعبارات, فلم نعد نشعر إلا بالغربة في وطن لا يعطينا سوى الموت والدمار, وطن لا يشبع من آلامنا ومآسينا, ولا يسمع صراخنا وعويلنا, ولا يستجيب لنا, فتعمق شعورنا بالغربة, حتى صارت غربتنا حقيقية, وخذلتنا الحكومات المتعثرة في تجاربها الفاشلة, وأصبح الخذلان رفيقنا, وتعددت مواقف الخذلان لتعتري أنماطا جديدة من حياتنا اليومية البائسة.