مجزرة تدمر.. مرآة الحاضر
مجزرة تدمر.. مرآة الحاضر
ندوة بعنوان "لن ننسى مجازركم"
عبد الرحمن السراج
في ذكرى مجزرة سجن تدمر (بالميرا) أقام مركز مسار الإعلامي فعاليات في فندق تايتنك في اسطنبول تحت عنوان "لن ننسى مجازركم" بمشاركة مجموعة من الناشطين السوريين والإعلاميين، بالإضافة إلى خبراء في قضايا حقوق الإنسان وشهود عيان على المجزرة التي حدثت في 27/6/1980، وعدد من الضيوف كان منهم المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
بدأت الفعاليات بمؤتمر صحفي افتتحه مدير مركز مسار الاستاذ عمر مشوح، الذي تحدث في كلمته عن الهدفين الرئيسيين للفعالية: الأول تسليط الضوء على مجزرة سجن تدمر التي نجح نظام آل الأسد في طمس معالمها، فتمت هذه الفعالية لتقديم عائلة الأسد المجرمة على حقيقتها. أما الهدف الثاني فهو إثبات أن مجازر الحاضر هي امتداد لمجازر الماضي، لم يتغير شيء فالمجازر واحدة والقاتل واحد والضحايا هم أنفسهم. وأدلى الشهود بعد الكلمة بشهادات مختصرة على تجربة سجنهم، تلتها كلمة للدكتور رضوان زيادة مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان عن الوضع القانوني لهذه المجازر. وتلت المؤتمر الصحفي ندوةٌ تحدث فيها الشهود بإسهاب، وتناول فيها الدكتور رضوان زيادة الوضع القانوني لهذه المجازر.
ظروف المجزرة
في كلمته أشار الدكتور رضوان زيادة إلى أن كلمة تدمر أو بالميرا ترمز إلى أعرق حضارة في تاريخ البشرية، استطاعت فيها الملكة زنوبيا تأسيس مملكة مستقلة عن بيزنطة في تلك الفترة وعلى مدى القرون كانت حضارةً عريقة. لكن للأسف مع مجيء عائلة الأسد اقترنت الكلمة بأسوأ سجن في التاريخ. فقد بني سجن تدمر في أسوأ الظروف البشرية، في صحراء قاحلة وبعيدة عن التجمعات السكانية، وكان دائماً رمزاً لممارسة أبشع أشكال التعذيب والقتل والإساءة للنفس الإنسانية.
تحدّث الشهود الثلاثة بالإضافة إلى الدكتور رضوان زيادة عن مجزرة تدمر، ففي حزيران 1980حاولت جماعة الإخوان المسلمين اغتيال حافظ الأسد، فأمر رفعت الأسد – أخ حافظ الأسد - سرايا الدفاع في 27 حزيران 1980 بالتوجه في عشرين مروحية من مطار المزة إلى سجن تدمر الصحراوي، ونزل عناصر سرايا الدفاع كاملي التسلح إلى الزنازين وأطلقوا النار على السجناء في زنازينهم ليقتلوا ما بين 500 و1000 سجين. وقد استمرت الإعدامات والقتل أثناء التعذيب في السجن حتى عام 1992 وتشير بعد الإحصاءات والتي تحدث عنها الشاهد براء السراج إلى مقتل ما لا يقل عن 10000 شخص في تلك الفترة.
يقول صلاح الحموي أنّه عند دخوله السجن وجد زوايا المهجع محفرة وفيها بقايا أشلاء وشعر ورصاص، ويؤكد ذلك عمر حذيفة بقوله أنه لدى دخوله سجن تدمر رأى آثار الدماء واللحم وطلقات الرصاص على جدران المهجع الذي مكث فيه لفترة فعلم بأن شيئاً قد حدث قبل قدومه إلى السجن.
يقول المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين رياض الشقفة أن مجازر النظام بدأت منذ توليه الحكم، فقد كان أولها في حماة عام 1964 ثم استمرت في حماة وحلب وجسر الشغور وسرمدا وغيرها، لكن مجزرة سجن تدمر تتميز بأنها الأكثر خسةً وبشاعة، لأن عصابة الأسد دخلت وقتلت الأسرى العزّل في السجون.
يقول الدكتور زيادة أن نظام حافظ الأسد تذرع بهذه المجزرة على أنها تطبيق للقانون رقم 49 الذي يقضي بإعدام كل منتسب لجماعة الإخوان المسلمين، والذي فيه بحد ذاته مخالفة لأبسط حقوق الإنسانية في حقوق المعتقد والتنظيم السياسي، ثم إن تذرع النظام بأن من ذهب في مجزرة تدمر إنما هو تنفيذ لذلك القانون أي أنه نُفّذ بأثر رجعي، فيه خلاف صريح للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي ينص في المادة الثانية منه على أن لا تنفذ القوانين بأثر رجعي. ويشير زيادة إلى أن مجزرة سجن تدمر من المجازر القليلة التي حدثت في الثمانينات ووُثِّقت في سجلات الأمم المتحدة، فقد تورط اثنين من المشاركين فيها في محاولة اغتيال رئيس الوزراء الأردني مضر بدران، وعندما اعتُقلا وبدأ التحقيق معهما اعترفا ببعض تفاصيل المجزرة.
تحدث الشهود عن ظروف اعتقالهم في سجن تدمر والانتهاكات التي شهدوها بأعينهم. فبدأ الشاهد الأول عمر أحمد حذيفة الذي اعتقل في سن المرهقة بتهمة كتابة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" على اللوح في المدرسة، وعند اعتقاله لم يكن يعرف مالك شيئاً عن تنظيم الإخوان المسلمين لكنه تحت التعذيب وجد نفسه واحداً منهم. أما الشاهد الثاني مالك محمد علي فقد اعتقل في 13/آب/1980 وخرج في شباط/2004 بتهمة قراءة صفحة من القرآن في الصف العاشر، ويذكر أن عناصر الأمن عندما جاؤوا لاعتقاله قالوا لأمه أنهم سيأخذونه لخمس دقائق ويعيدونه، يقول مالك: "لم تنتهِ هذه الخمس دقائق إلى الآن". أما الشاهد الثالث صلاح الحموي فقد اعتقل في 1980 وخرج في أواخر العام 2004، وعندما جاء عناصر الأمن لاعتقاله أخذوا والده وضربوا والدته وسرقوا ما كان في المنزل من مال وذهب.
التعذيب الجسدي والنفسي
عن أشكال وصنوف التعذيب يقول الشاهد مالك محمد علي أن التعذيب الجسدي يبدأ من حفلة استقبال ينال فيها السجين أشد أنواع العذاب، ويضيف عمر حذيفة أن ما شهده من التعذيب أدى إلى أن يشيب شعره قبل سن الخمس وعشرين عاماً. وقد قسّم مالك محمد علي التعذيب إلى صنفين جسدي ونفسي، أما عن الجسدي يقول إن أي لحظة يرى فيها السجين السجان يتعرض فيها إلى الضرب، فقد كان السجناء يتمنون حتى أن لا يخرجوا إلى فترة التنفس وكانوا يتمنون أن يأخذوا طعامهم من فتحة الباب حتى لا يروا السجانين. وقد حدث مرة أن كان مالك واقفاً على طرف الزنزانة في جولة التفقد فأمره السجان بوضع لسانه بين أسنانه ثم ضربه بيده من أسفل ذقنه حتى كاد يتقطع لسانه، ويقول مالك أنه رأى السجان وهو يبول في طعام المساجين.
أما الشاهد صلاح الحموي فقد صنف التعذيب بين الجسدي والتخويف المستمر والشتم، وكان أكثر ما أشار إليه هو الصلاحيات بالقتل الممنوحة لقوات النظام من أكبر الضباط إلى أصغرهم. يقول صلاح أنه وفي طريقه للحمام مع زميله المدعو "فيصل" وضع السجان رأس فيصل على الأرض وضربه بصخرة حتى كسر جمجمته، وفي حالةٍ أخرى يقول صلاح انه كان له زميلٌ مصاب بالارتعاش قد حان وقت الإفراج عنه، ولما ذهب لاستلام ورقة الإفراج بدأت يده بالارتعاش فأمره الضابط بأن يثبت يده، فلما لم يستطع ذلك أخذوا منه ورقة الإفراج وأعادوه إلى السجن. وفي حالة ثالثة كان في زنزانة صلاح سجينٌ مصاب في البروستات، وعند طُلِب الطبيب له سأله أحد الضباط عن تهمته فأجاب أن أبنائه في التنظيم فقال الضابط: أنت أسأت تربيتهم، فأجابه السجين: بل أنتم أسأتم تربيتهم في مدارسكم، فتركوه يصرخ في الزنزانة من الألم حتى قام بعض السجناء بمعالجته بأدوات بسيطة.
يقول صلاح أن إعدامات السجناء كانت تجري في الساحة السادسة من السجن، وقد رأى بعينه السجانين وهم يصفون الجثث على الأرض ويرقصون عليها. ويشير إلى أن الزيارات كانت ممنوعة من عام 1980 وحتى 1984 إلا لبعض الأفراد عن طريق رئيس الفرع علي دوبا، وبين عامي 1984 و1985 سُمِحت الزيارات لمدة ثماني أو تسع أشهر، يقول صلاح: لكننا صرنا نتمنى أن لا تأتينا زيارة لأن بعدها التعذيب بالدولاب والضرب وسرقة النفيس مما يأتينا من أهلنا.
يقول الشاهد مالك أن معاملة السجناء كانت كأسوأ ما يمكن أن يُتخيل، فقد كان المساجين مغطىً على أعينهم ومن يلاحظ أنه فتح عينه يكون مصيره التعذيب، وكان السجانون يتلفظون مع السجناء بأسوأ الألفاظ طوال فترة السجن، وكانوا يقولون "لا إله في هذا المكان الإله هنا حافظ الأسد". يصف مالك طعام السجناء فيقول أنه كان يأكل الزيتونة على أربع لقم، وكانت تقسم البطيختين والفروجتين على 150 إلى 200 سجين.
يسهب مالك ويتحدث عن الحمّام الذي وصفه بأنه للعذاب ليس للنظافة، حيث كان يقسم السجناء في المهجع الذين يقارب عددهم 150 إلى قسمين، يدخل القسم الأول الحمّام والمياه بدرجة حرارة الغليان، ويجبَرون على الدخول تحت المياه حتى أن أحد السجناء احترقت وانقشعت جلدة رأسه، فكان السجناء يبللون الشورت الذي يرتدونه ليقنعوا السجانين بأنهم تعرضوا للماء، أما الدفعة الثانية فمصيرها الجلد والشتم. وكان السجناء منذ 1980 وحتى 1985 يخرجون مرة واحدة للحلاقة على يد السجانين فكانوا يعودون من كل حلاقة بالجروح تملؤ وجوههم.
يقول السجين مالك محمد علي أن السجن كان له جانب مظلم تعرض فيه للتعذيب والمعاملة القاسية، لكنه في نفس الوقت كان له جانبٌ مشرق، يقول مالك: دخلنا أطفال ووهبنا الله أخوة صالحين حضنونا وعلمونا وأدبونا، فقد كان السجن جامعة في الفقه والقرآن والعلوم الصناعية ومحو الأمية، وعندما خرجنا لاحظنا أن بعضنا قد فاق أقرانه في المجال الثقافي والفكري والسياسي.
مجزرة سجن تدمر مرآة الحاضر
من الجدير بالذكر أن القوات التي شاركت في مجزرة تدمر في الثمانينات كانت تسمى سرايا الدّفاع وكانت تابعةً لرفعت الأسد أخ حافظ الأسد، هذه القوات تحولت إلى ما يسمى الآن "الفرقة الرابعة" التابعة لماهر الأسد أخ بشار الأسد والتي تعتبر من أشرس القوات التابعة لنظام بشار الأسد والمشاركة في قمع الثوار.
في البداية تحدّث مدير مركز مسار عن ضرورة إثبات أن مجازر الحاضر هي امتدادٌ لمجازر الماضي لم يتغير شيء منها، فالقاتل واحد والضحايا هم أنفسهم. وفي هذا السياق أضاف المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا محمد رياض الشقفة أن المجازر التي يرتكبها نظام بشار الأسد حالياً كشفت زيف ادعاءات نظام حافظ الأسد الأب حينما ادّعى مسؤولية الإخوان المسلمين عن مجازر الثمانينات ويدّعي ابنه الآن مسؤولية عصابات مسلّحة عن المجازر المرتكبة بحق الشعب السوري.
ويقول الأستاذ رضوان زيادة إن مما يدعو للألم أننا لا نقف بعد 30 عاماً للمطالبة بالعدالة لضحايا تدمر، ولكننا نعيش مجازر مثلها كل لحظة. ويضيف قائلاً: كنا نظن أن مجازر تدمر وحماة وجسر الشغور في الثمانينات ستكون الأخيرة، لكن يبدو أنه ما دامت عائلة الأسد موجودة ستظل هذه المجازر.
المجازر لا تسقط بالتقادم
تحدّث الدكتور زيادة مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان عن أن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، فقد تم إنشاء محكمة ضمن الأمم المتحدة لمحاسبة المجرمين المسؤولين عن مقتل نصف مليون شخص في كمبوديا، وبالتالي فالجرائم عندما تصنف أنها جرائم إبادة أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب لا تسقط بالتقادم. وقد عُرّفت الجرائم ضد الإنسانية في المادة السادسة من نظام روما الأساسي بأنها "أعمال كجزء من اعتداء شائع أو منظم موجه ضد أي سكان مدنيين مع إدراك لهذا الاعتداء"، ويشترط فيها أن تكون منتشرةً وممنهجة أي أن تكون هناك نية واضحة لدى الدولة في تحويل هذه الجرائم إلى سياسة دولة.
وعن كيفية المحاسبة عن المجازر الحالية التي ارتكبها ويرتكبها نظامي الأسد الأب والابن، طرح الأستاذ رضوان حلولاً ثلاثة:
1- صدور قرار من مجلس الأمن كما في ليبيا ودارفور بإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، لأن سوريا ليست موقعةً على نظامها الأساسي فتتطلب إحالتها للمحكمة قراراً من مجلس الأمن، وهذا الأمر يحول دونه الفيتو الروسي والصيني.
2- أن توقع الحكومة الانتقالية بعد سقوط نظام الأسد على نظام روما الأساسي، وتطالب في التحقيق بالمجازر، وهذا الخيار مرهون بسقوط الأسد.
3- أن تطلب الحكومة الانتقالية إنشاء محكمة خاصة بالجرائم التي حدثت في سوريا منذ الثمانينات وحتى الآن، على غرار المحكمة التي أنشئت للجرائم التي حدثت في رواندا.
لا زال صدى أصوات سجن تدمر في مسامع الشهود على المجزرة المأساوية التي حدثت منذ ثمانينات القرن الماضي. والآن بات يشاركهم غالبية الشعب السوري في الاحتفاظ بهذه الأصداء في مسامعهم، فلا يكاد يخلو شارعٌ في حمص أو إدلب أو درعا أو غيرها من المدن السورية من مأساةٍ كالتي حدثت في مجزرة تدمر، خاصةً مع وصول عدد المفقودين إلى أكثر من 200 ألف، لا يُعرف مكانُ أكثرهم. فالمهمة جسيمةٌ أمام ناشطي الثورة السورية في توثيق هذه الجرائم لتحصيل حقوق أهالي الضحايا والمفقودين وتعويضهم، وإيجاد العدالة في بلدٍ لم يعرفها منذ أكثر من 40 سنة.