بشأن صهر ثقافات الأقليات
بشأن صهر ثقافات الأقليات (*)
د. عبد الله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
في ظل الهجرات الكبيرة عبر الحدود لمجموعات بشرية تنتمي إلى ثقافات متمايزة، وفي زمن ثورة الاتصالات السريعة، أصبحت عملية صهر الأقليات والثقافات الدخيلة في بوتقة الثقافة الواحدة، إن في الدول المتقدمة أو النامية، مسألة صعبة أو شبه مستحيلة. حينئذ مطلوب حوار عبر الثقافات والحدود وداخل حدود الدولة وبين ثقافاتها، وبهذا تنتفي الحاجة إلى التركيز على رقابة الغريب لتُستبدل بالمواطنة المشتركة، أو على الأقل المعايشة المشتركة مع قاطنين أجانب هم في النهاية بشر ولهم حقوق إنسانية.
وتبرز الإشكالية خاصة حين يحرص الكل على تأكيد هويته وقيمه الثقافية، إذ مازالت العديد من استطلاعات الرأي تؤكد أنّ العديد من المجتمعات الأوروبية ترغب في تجنب التعايش مع الأقليات. ويُعتقد أنّ هذه المجتمعات مازالت لا تواكب حالة النمو والتطور في الأقلية المسلمة، وهو ما قد يظهرها غير متسامحة في كثير من الأحيان، فمسائل مثل بناء المساجد، وارتداء الحجاب، وبعض التقاليد الإسلامية، مازالت كلها قيما غير مُفكَّر فيها، ولم يستوعبها الوعي الجمعي الأوروبي. ولعل عدم الفهم والوعي بهذه الظاهرة الجديدة المتنامية، واستمرار الوقوف موقف اللامبالاة منها، نمّى اليوم ما يعرف بـ " الإسلاموفوبيا "، أو الخوف من الإسلام. وزاد من تغذية هذه الظاهرة إصرار أغلب المسلمين على أن يكونوا حاضرين بأجسامهم في الجغرافيا الأوروبية، مفارقين بقيمهم وهوياتهم المجتمع الأوروبي، وكأنهم مجتمع داخل المجتمع.
ومن المؤكد أنّ عدم تغيير أنماط التفكير، في الجانبين، من شأنه أن يحدث شروخاً تتبلور عبر تصارع الثقافات. ويبدو أنّ على المسلمين اتخاذ المزيد من التدابير للاندماج، واحترام قيم ومعايير المجتمعات التي يعيشون فيها، والكف عن تشكيل مجتمع موازٍ داخل الفضاء الأوروبي بغية تغيير أنماط حياة هذه المجتمعات، كما أنّ على المجتمعات الأوروبية أن توسّع من أفقها، للتعايش مع أقليات مختلفة ومتنوعة، وليس البحث عن مجرد تذويبها ضمن فضائها الأوروبي.
إنّ أخطر ما ينتج عن تلك الإشكالية هو مفهوم " الغزو الثقافي "، الذي " يعسكر العقل "، و " يعقلن الغزو "، في علاقة غير سوية تنتج في الخاتمة ثقافة غير سوية، تختزل العلاقة بين الثقافات البشرية إلى علاقة صراع وليس علاقة تلاقح أو تثاقف، كما هو حال التاريخ الفكري للإنسان، مما يعني ضمناً أنّ هنالك ثقافة أصيلة سائدة، مهددة بغزو ثقافة غريبة وافدة. ولو طبقنا هذا المفهوم على تاريخ العلاقة بين الثقافات الإنسانية المختلفة، لخرجنا بنتيجة مفادها أنّ الصراع بين الثقافات هو الأساس في التاريخ، وفي ذلك تشويه كبير لتاريخ العلاقة بين الثقافات.
ولو تبنت البشرية مثل هذا المفهوم، وما يتبعه من " غزو " فكري ونحوه، لما كان الإنسان قد تجاوز عصر الحجر حتى هذه اللحظة. فالأصالة النقية وهمٌ من الأوهام، بمثل القول بالعرق النقي. والمشكلة، في النهاية، ليست مشكلة غزو أو اختراق، بقدر ما أنها مشكلة عقليات غير قادرة على التخلّي عن أساطيرها وخوفها وتقوقعها على ذاتها، وهذا هو ما سيؤدي إلى التهميش في عالم لا ثابت فيه إلا التغيير، ونقطة البدء في كل ذلك هي التخلص من تلك المفاهيم المانعة لفعل المثاقفة والانخراط في ثقافة العصر.
إنّ حديث " الغزو الثقافي " والأصالة يقودنا إلى الحديث عن ذاك المفهوم الجامع لكل ذلك، ألا وهو حديث الهوية. فهل الهوية قالب ثابت محدد المعالم والأبعاد، لا يتغير وليس له أن يتغير، أم هي كينونة تاريخية متغيرة، وليس لها إلا أن تتغير إن كانت تروم البقاء والتطور ؟
فإن كانت الهوية هي ذاك القالب، فإنّ أي شيء وكل شيء يأتي من خارج ذلك القالب خطر عليها، أما إذا كانت كينونة ثقافية وتاريخية معينة، فإنّ المؤثرات الخارجية تثريها ولا تهدمها.
وفي حالات الضعف والخوف والأزمات التي نعيشها في عالمنا العربي نتحدث عن الهوية كثيراً، ولا ندري في النهاية عن أي شيء نتحدث حقيقة. فكلما جاء حديث الهوية، قيل العروبة والإسلام، ولكن من يحدد أية عروبة أو أي إسلام نتحدث عنه، في ظل تعدد التيارات والاتجاهات والاجتهادات الفكرية التي تحاول أن تجيّرهما لصالح منطلقاتها وما تدعو إليه.
(*) – نُشرت في صحيفة " المستقبل " اللبنانية – 8/5/2012.