الفرق بيننا وبينهم صورة

كاظم فنجان الحمامي

الفرق بيننا وبينهم صورة

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

يقول العقلاء إن أحداث التاريخ تتكرر مرتين, مرة كصورة مأساوية ومرة كمشهد هزلي يسخر من الصورة الأولى, بمعنى إنها تظهر في الأولى كمأساة وفي الثانية كملهاة, اما نحن فالصورة عندنا ثابتة لا تتغير حتى لو تكررت آلاف المرات, وهذه هي الحقيقة المرة, التي تعايشنا معها منذ قرون,

سنشاهد في هذه المقالة صورة مأساوية التقطت قبل نصف قرن تقريبا, لكنها تحولت اليوم إلى نصب تذكاري يستخف بالماضي, ويشهد على تحسن الأوضاع وتغيرها من حال إلى حال

ربما كان الشيخ القرني على حق حين وضع مقارنته الطريفة الظريفة بيننا وبين العالم المتقدم على مقياس نقطوي ساخر, فاستنتج من خلال مقارنته إن الفرق بين الغرب والعرب نقطة, ثم وجد المجال مفتوحا أمامه لإضفاء المزيد من المقارنات النقطوية الساخرة, فاكتشف إنهم يتفاخرون (بالمعارف) ونحن نتفاخر (بالمغارف), ويتفاهمون (بالحوار) ونتفاهم (بالخوار), يتصرفون وكأنهم شعب الله (المختار) اما نحن فشعب الله (المحتار), يصنعون أكبر (دبابة), ونحن نخشى من أصغر (ذبابة), المستقبل لأبنائهم (غناء) ولأبنائنا (عناء), يتواصلون (بالمحابرات) ونتواصل (بالمخابرات), عندهم المواطن (مزبوط) وعندنا (مربوط), حصل مواطنهم على (الحصانة) وقبعنا نحن في (الحضانة), يعيشون مع بعضهم البعض في (تحالف), ونعيش مع اقرب الناس إلينا في (تخالف). .

وسنكتشف اليوم إن الفرق بيننا وبينهم صورة, نعم صورة واحدة فقط, صورة نادرة تعكس تداعيات التنافر العرقي العنصري في أمريكا قبل نصف قرن تقريبا, لطالبة سوداء تدعى (إليزابيث إيكفورد) التقطها لها المصور (هارل بريانت) عام 1957, اثناء دخولها مدرسة (ليتل روك Little Rock), ليسجل بتلك الصورة تاريخ التحاق أول طالبة أمريكية سوداء بإعدادية مركزية مخصصة للبيض في ولاية اركنساس. .

ظهرت إليزابيث في الصورة ثابتة الجنان, شامخة الرأس, وهي تشق طريقها بعزيمة ووقار وسط حشد من الطلاب والطالبات البيض, تجمعوا حولها, وانهالوا عليها بعبارات قاسية, وقذفوها بسيل من الشتائم والألفاظ النابية, لكنها لم تعبأ بهم, فصبرت وتحملت مضايقاتهم المتواصلة, وواصلت كفاحها حتى جاء اليوم الذي فازت فيه عليهم بتفوقها العلمي, وحققت فيه أعلى الدرجات في أصعب المقررات الدراسية, فكان العلم نصيرها ووسيلتها لتجاوز العقبات. .

">

">

">

إليزابيث من مواليد 4/10/1941, وكان التحاقها بالمدرسة صباح يوم 4/9/1957, بمعنى إنها كانت دون السادسة عشرة من العمر عندما فضلت الخيار الصعب, وقررت الالتحاق بهذه المدرسة دون غيرها من المدارس المخصصة للسود, فدخلت تاريخ التحدي العنصري من بوابة (ليتل روك), وكانت هي الحافز الرئيس في تشجيع ثمانية من الطلاب السود للالتفاف حولها في حمل راية التحدي بوجه التوجهات العنصرية المتطرفة, فأصبح عددهم تسعة طلاب من البنين والبنات, أطلقوا على أنفسهم (ليتل روك ناين Little Rock Nine), ما اضطر إدارة المدرسة إلى الاستعانة بالشرطة المحلية من اجل توفير الحماية لإليزابيث وجماعتها. .

وبعد انقضاء نصف قرن تقريبا, تحسنت الظروف, وانحسرت موجات التمييز العنصري تدريجيا, وانطوت صفحات مؤلمة من تاريخ الأرض الجديدة, وتحولت تلك الصورة التي التقطها (هارل) إلى نصب تذكاري يتوسط ساحة المدرسة, ويضم إليزابيث والطلاب السود الذين التحقوا بها, ورافقوها في مسيرة التحدي, وصار هذا النصب التذكاري هو الحد الفاصل لتحول ولاية اركنساس نحو التلاحم الإنساني الحميم بين كل الأعراق والألوان والمذاهب, فانصهرت الفوارق كلها في بوتقة الوطن والمواطنة, والتحمت في ظل التعايش السلمي بين أفراد الجنس البشري في أبهى صورها. .

وشاءت الأقدار أن تكون إليزابيث في طليعة نجوم المجتمع الأمريكي الذين حلّوا ضيوفا على البيت الأبيض صباح يوم 20/1/2009, وشاءت الأقدار أن يجتمع شمل (التسعة), ونقصد بهم جماعة إليزابيث, الذين تخرجوا قبل نصف قرن, وهم (ثيلما مكوثرشيد), و(ميني جين براون), و(غلوريا راي), و(مارولتا وولز), و(جفرسون توماس), و(تيرنس روبرت), و(أرنست غرين), و(مليا باتيلو), وعلى رأسهم (إليزابيث إيكفورد), التي عملت بعد تخرجها في الصحافة الحربية, ثم تقاعدت, والمثير للعجب إن التسعة ظلوا على قيد الحياة, ولم يمت من هم أحد, وكأن القدر كان على موعد معهم ليزف لهم البشرى باندحار العنصرية, فوقفوا جميعهم في منصة الشرف ليشهدوا مراسيم تنصيب (باراك حسين أوباما), أول رئيس أمريكي من أصل أفريقي, من أب كيني مسلم, وأم أمريكية بيضاء من ولاية كنساس. .

وقف التسعة (السود) بقلوب ناصعة البياض في هذا اليوم الذي ذابت فيه أقوى الحواجز العرقية, واقتلعت فيه جذور الولاءات الطائفية من الأرض التي اكتشفها كولومبس عام 1492, ولم يجد فيها وقتذاك غير تجمعات مبعثرة من قبائل الشروكي, والتاهو, والأباتشي, وهو أيضا العام الذي سقطت فيه غرناطة آخر معاقل ملوك الطوائف, ودخلت فيه المدن العربية في الشرق والغرب في نفق التخلف الحضاري المظلم, فشهدت أسوأ مراحل الانحطاط, ووقعت سواحل الخليج العربي بيد الغزاة البرتغاليين والهولنديين والأسبان والانجليز والفرنسيين, وصارت مقدراتها بيد السلطان (غازي ياووز سلطان سليم خان أول), وتعني: (السلطان الغازي القاطع البتار سليم خان الأول). .

وبدأ العد التنازلي, وراحت علينا, ووقعنا بيد من لا يرحم, وتلونت عندنا صور التمييز الطبقي والعرقي والطائفي, ودخلت علينا اصطلاحات التعالي والبطر من نوافذها الفوقية, من مثل: الباشا, والآغا, والخديوي, والصدر الأعظم, واللاوند, والياور, والمهردار, والدفتردار, والسردار, والميرالاي, واليوزباشي, والسلحدار, والعلمدار, والبيرقدار, و(كومة حجار), وصرنا أساتذة في تكنولوجيا التفرقة, وعلم التشتت, ثم هبطنا إلى الدرك الأسفل في فلسفة التمزق والتشرذم, حتى جاء اليوم الذي صارت فيه (صناعة الموت) من الحرف (الجهادية) الرائجة, وظهرت علينا تصنيفات عرقية جديدة لم تكن موجودة في زمن (جناب مولانا سلطان غازي ياووز), فابتكرنا طبقة (البدون) في حوض الخليج العربي, وحرمناهم من ابسط الحقوق الإنسانية التي تتمتع بها قبائل الأمازون, وارتقت عندنا طبقة (وعاظ السلاطين), فشمخوا علينا بقصورهم الفخمة, وفتاواهم المؤازرة لجيوش الناتو, والمساندة لقرارات قوات التحالف, وتفاقمت حدة التناحر الطائفي بين (الشيعة والشيعة), وبين (السنة والسنة), بعدما تجاوزنا مرحلة التنافر (السني الشيعي), ولم نتفق حتى يومنا هذا على تحديد اليوم الأول من رمضان, ولم نتوصل إلى معرفة الموعد الصحيح لعيد الأضحى, وتراجعنا إلى العصور السحيقة, فتخندقنا في الخطوط الأمامية للمعارك التي دارت رحاها هنا قبل أكثر من ألف عام, وتبرعت الفضائيات العربية بنشر الفكر التكفيري, والفكر التطبيري, حتى ضاع الخيط والعصفور, ولم يعد وراءنا وراء.

ولسنا مغالين إذا قلنا إننا تفوقنا على الشعوب كلها في فن التمييز العنصرية والطائفي والمناطقي والمذهبي والمهني, هذا (معيدي), وذاك (شروـي), وهذا (صعيدي), وذاك (كعيبر), و(بدوي), و(حضري), وهؤلاء (سود) وأولئك (صفران), وهذا (بدون), وذاك (مواطن أصلي), وهذا (رافضي), وذاك (ناصبي), و(صفوي), و(علوي), وإلى نهاية السلسلة الصدئة الغائرة في أعماق مستنقعات التفكك. .

كتبت هذا الموضوع وكنت حائرا متوترا بسبب ما آلت إليه صورتنا, من السيئ إلى الأسوأ, في الوقت الذي كانت فيه إحدى الفضائيات العربية تتلقى سؤلا من احد المشاهدين, يسأل فيه سماحة الشيخ المبجل, ويقول له: أنا شاب مسلم ملتزم وجاءتني فرصة للسفر على طائرة تحلق فوق بلاد الكفار, فهل أنا في هذه الحالة مذنب ؟, فقال له الشيخ: عليك يا بني أن تتحدث مع الكابتن طيار, وتطلب منه أن يتجنب الطيران فوق بلاد الكفار, وإذا كان مضطرا فعليه أن يحاول الطيران فوق تجمعات المسلمين, وهذه طريقة سهلة فمآذن المساجد مرتفعة ويمكن أن تكون دليلا للطيران الشرعي الحلال. .

شعرت حينها وكأن المتصل والشيخ يصفعاني على وجهي, ويسددان لي أقسى اللكمات, فقلت في نفسي:

بليت بأحمق فعجزت عنه  فكيف إذا بليت بأحمقين

(لك عرب وين طنبورة وين), أيعقل إننا وصلنا إلى هذا المستوى من التردي ؟؟, أيعقل إننا تخلفنا عن الركب الحضاري بهذه الأساليب المقرفة المقززة ؟؟, أيعقل إن شغلنا الشاغل انصب في التباحث في المسائل التافهة, من دون أن نفكر بجد في يوم من الأيام بصيانة نسيجنا الاجتماعي, فنلم شملنا, ونرص صفوفنا أسوة ببقية الأمم. .

المؤسف له إن صورتنا ظلت كما هي, ولم تتغير ملامحها منذ اليوم الذي تسلل فيه الحجاج الثقفي إلى مسجد الكوفة, إلى اليوم الذي ظهر فيه (مفرج الثقفي) من الكويت, وهو يرفع عقيرته بالصياح والنباح مطالبا جده الحجاج بالخروج من قاع جهنم, والعودة إلى العراق كي يذبح أهل العراق عن بكرة أبيهم من دون رحمة. .

 

لقد نجحت الشعوب في قارات أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وأوربا في تجاوز أصعب الفوارق والعقبات الطبقية والعرقية والحدودية في غضون نصف قرن, فرسمت لمستقبلها أجمل الصور وأحلى اللقطات, ودأبنا نحن على استنساخ الصور القديمة البالية, وشتان بين من يفكر بالطريقة الحضارية الصحيحة المتحررة من أوحال الماضي البليد, وبين من يفكر بالطريقة التحريضية التنافرية التي زرعت الضغائن والفتن الطائفية من شمال الموصل إلى جنوب السودان ومن برقة وبريقة إلى سد مأرب. .

والله يستر من الجايات