حرية الرأي في "الأهرام "

حرية الرأي في "الأهرام " !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

منذ أربعين عاما تقريبا كنت أكتب في " الأهرام " ، وأنشر أخبار كتبي ونشاطاتي ، وعرفت في أروقته كتابا فضلاء ، وأدباء كانوا ناشئين وصاروا مرموقين ، ربطتني ببعضهم علاقات إنسانية ما زالت باقية حتى اليوم ، ولم يمنع تباين التوجه الفكري أو الأدبي مع بعضهم أن تكون الصلات إنسانية حميمة والعلاقات قائمة على التقدير والاحترام .. ثم جاءت فترة ازداد فيها القمع ، وحوصرت حرية الرأي من  جانب أجهزة الشر والقهر والاستبداد ، فقدّرت للقوم ظروفهم ومدى الحرج الذي يعيشون فيه ، فكنت أبتعد عن الكتابة إلا لضرورة أدبية ؛ مراعيا ألا يكون ما أكتب سببا لمضايقة من أحب أو محرجا لمن أعرف ، ثم إنني في كل الأحوال كاتب هاوِ، أعيش في أعماق الريف بعيدا عن ضجيج العاصمة وعجيجها ، ولا أنافس أحدا على مكاسب ، ولا أغاضب على شهرة ، وهو ما منحني بفضل الله حالة من القناعة والرضا بأن كل حرف أخطه يجب أن يكون في سبيل الله وحده ، لأن ما عدا الله لا يعنيني ..

تحت سطوة القمع كان المجال مفتوحا لمن يغنّي للنظام الجائر بكتاباته ، ولمن ينشد لرموز الظلم أناشيد الولاء والتأييد ، ومن لم يكن يفعل ذلك كان يتناول الإسلام والمسلمين بكل قبيح من القول ، وكل نقيصة من  الأخلاق ، واستغل بعضهم ما عرف بمحاربة الإرهاب الإسلامي ليخرج ضغائنه وسخائمه ضد دين الأمة وشريعتها ، وإسقاط معتقداته المادية المنحرفة على معطيات الإسلام بما يشوه الصورة الإسلامية ، ويقبّحها أمام جمهور القراء والمتلقين !

كانت محنة الأمة عاصفة ، وكان القهر بشعا ، وشاء الله أن تنقشع الغمة ، ويسقط النظام الإرهابي الفاسد ، ويبزغ عهد جديد ، شعر فيه الناس أن الخوف قد سقط ، وأن الزمن القبيح الذي استمر ستين عاما لن يعود مرة أخرى مهما استبد خلفاؤه ، وتفننوا في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ، وساندتهم قوى الشر الإقليمية والعالمية .. لن تعود العقارب إلى الوراء أبدا.

كان سقوط النظام إيذانا بتغيير الخطاب العام ، وظهور معجم جديد مختلف عن المعجم الذي كان سائدا في الزمن القبيح ، وكانت هناك مبادرات مشكورة من بعض الفضلاء للمشاركة بالكتابة من جانب الأقلام المحجوبة أو المطاردة أو الممنوعة ، وطالع الناس أسماء لم تكن متاحة فيما يعرف بالصحف القومية ، وكانت " الأهرام " في مقدمة هذه الصحف ، وكان لقلمي المتواضع فرصة الكتابة لبضعة شهور بصورة شبه أسبوعية ، وفجأة توقف النشر لموضوعاتي .

أخذت أتهم نفسي .أرسل الموضوع أكثر من مرة ظنا أنه لم يصل إلى القسم المختص . أفترض أنه ضاع ، أو لم يستطيعوا في الصحيفة سحبه من البريد الإلكتروني ، فأعيد الإرسال مرة ومرة .. أفترض أن الموضوع غير ملائم أو محرج أو إنه يسبب مضاعفات للصحيفة والكاتب ، فأرسل غيره ،وظللت على هذه الحال قرابة شهرين ، كنت خلالهما أخاطب من أعرف في المؤسسة العريقة ليرد على برد شاف يشرح سبب الحرمان من حرية التعبير التي كانت ، هواتف من بيدهم الأمر لا ترد ، أرسل رسائل بالبريد الإلكتروني أطلب من المسئول أن يتعطف ويتنازل ويكلف سكرتيرته بالرد علىّ ، مع أنني لست تافها ولا هملا ، فأنا على الأقل أستاذ جامعي تخرج على يديه عشرات الآلاف من الطلاب في جامعات مصرية وعربية ، وكاتب لا بأس به ، ومؤلف نشر نحو سبعين كتابا في مجال التخصص والإبداع والقضايا العامة ، وكرمته في الداخل والخارج جهات ذات قيمة .. ولكن لا أحد يقطع الصمت !  

إلى هذا الحد وصل الاستعلاء أو الفوقية كما أتوهم ؟ هل عادت أجهزة الأمن اللعينة التي كانت تتحكم في الصحف مرة أخرى ؟ هل هي سطوة واحد ممن يكرهون الإسلام والمسلمين فرضت على المعنيين أن يتوقفوا عن نشر ما أكتب ؟ هل هي عقوبة شخصية يتم توقيعها على الكاتب دون أن يعرف الجرم الذي اقترفه ؟

المفارقة أن هناك أقلاما كانت في العهد البائد ، وأخرى مستحدثة بعد سقوطه تنشر في الأهرام بانتظام أسبوعيا وشهريا ، وتحظى بعقود رسمية ومكافآت مادية ، مع أن معظمها أو أغلبيتها الساحقة لا تعرف غير موضوع واحد هو العداء للإسلام بالعمل على استئصاله وتشويهه ، والتحقير من أتباعه من خلال بعض الحوادث الفردية أو القضايا الهامشية ، فضلا عن رفض الشريعة والإفتاء في أركانها دون علم أو معرفة ، ووصل الأمر ببعضهم إلى تشبيه  وصول المسلمين إلى البرلمان في الانتخابات التشريعية باختيار الشعب الألماني لهتلر ، وما ترتب على ذلك من حروب مروعه وحشية في أرجاء الكرة الأرضية !

الظاهرة اللافتة في الشهور الأخيرة تتمثل في عودة الأقلام الموالية للنظام البائد بصورة مكثفة ، وبعضها يقنّن وينظّر للثورة ، بالإضافة إلى مهمته الأصلية وهي الهجوم الرخيص على الإسلام والمسلمين ، في الوقت الذي يتراجع فيه الصوت الإسلامي ، ويتوارى بعيدا ، ويبدو كمن ارتكب جريمة كبرى أو معصية لا تغتفر ، مع أن هذا الصوت هو الأغلبية الساحقة في وطن مسلم بالعقيدة والحضارة ،وثقافته تحكم سلوك أبنائه جميعا ، حتى من يرفضونها ويحاربونها  فهم متأثرون بها ، ولا يستطيعون التخلص من كل خصائصها وسماتها .

إن أبسط تصور لحرية الرأي هو أن يتاح للناس جميعا أن يعبروا عن آرائهم ، سواء كانوا من الأغلبية أو الأقلية ، وللناس أن يقتنعوا بالحجة الأقوى والدليل الأوضح . ولا أظن أن صحيفة قومية يملكها الشعب المصري – فيما يفترض – ترضى أن توصم أنها تمارس المكارثية ضد فكر معين، وخاصة إذا كان هذا الفكر يمثل دين الأمة كلها ، وتصورها الذي يعمها منذ أربعة عشر قرنا  ..

لقد آن الأوان أن يدرك من يعنيهم الأمر أن مصادرة الفكر لا تمثل حلا دائما لما يعتقدون أو يتصورون ، فالمصادرة لم تكن في يوم ما بديلا عن المحاورة وتقبل الرأي الآخر ، وقد كان هناك فريق أيديولوجي من الضآلة والندرة بمكان يرفع شعار فولتير الشهير المتضمن الدفاع عن حرية الرأي الآخر ، ولو اقتضى الأمر افتداء هذه الحرية بالنفس ، ولكن المفارقة كانت في أن المقصود بالرأي الآخر ، هو رأي الفرقاء الآخرين في داخل الأقلية الأيديولوجية الضئيلة والنادرة ، التي وصل التعصب بأفرادها إلى رفض نشر الأخبار عن الذين لا يؤمنون بأيديولوجيتهم المستبدة الفاشية !

المحاورة طريق الأمل ، لأن المصادرة مصيرها إلى زوال ، كما زال النظام الفرعوني العميق الجذور بفضل الله ، في وقت ظن فيه الناس أنه راسخ إلى يوم القيامة ، ولكنه كان أوهى من بيوت العنكبوت !