المالية تنسف الملاكات البحرية العراقية
المالية تنسف الملاكات البحرية العراقية
وتقتلع جذور الموانئ
من جداول التوصيف البحري الوظيفي
كاظم فنجان الحمامي
[email protected]
ما يجري الآن وما جرى في السابق من محاولات حثيثة لتحويل العراق
من دولة بحرية تبسط نفوذها على الخليج العربي (خليج البصرة) كله إلى دولة مغلقة
بحريا, ليست لديها أية منافذ مينائية معتبرة, وما يجري من محاولات تهدف إلى تجريد
العراق تدريجيا من خصاله البحرية, يوحي لنا بأن كل ما جرى ويجري يعكس بشاعة الصورة
المؤلمة لمأساة هذا البلد, الذي كان سيدا للأنهار والبحار والأهوار, بينما لا يمتلك
اليوم سوى بضعة كيلومترات ساحلية منكمشة, تختبئ خلف شواطئ ضحلة قليلة الأعماق. .
إن من يراجع تاريخ التدهور البحري العراقي يكتشف حجم المؤامرة,
التي اشتركت في تنفيذها كل الأطراف الخارجية والداخلية, ولا نغالي إذا قلنا إن
العراق أنفرد من بين أقطار السماوات والأرض بقرارات عجيبة ما انزل الله بها من
سلطان, فالعراق هو البلد الوحيد في كوكب الأرض, الذي حرم أبناؤه من العمل في بحار
الله الواسعة بالقرار رقم (90) لسنة 1986, حين حجب الجواز البحري عن القطاع الخاص,
وهو البلد الوحيد في كوكب الأرض, الذي لم يوفر أبسط مقومات الدعم والإسناد لسفن
وزوارق قطاع الصيد البحري, والبلد الوحيد في كوكب الأرض, الذي كان ومازال يستورد
معظم بضاعته عن طريق الموانئ البديلة السورية والكويتية والأردنية, والبلد الوحيد
في كوكب الأرض, الذي لم يطور سواحله تجاريا ولا زراعيا ولا سياحيا ولا عمرانيا,
والبلد الوحيد, الذي اشتركت معظم وزاراته بتوجيه أقسى الضربات لتشكيلات وزارة
النقل, وخير مثال على ذلك: القرار الذي اعتمدته وزارة التجارة بالتنسيق مع وزارة
الزراعة بحرمان موانئ (المعقل) و(أبو فلوس) من استيراد البضائع الزراعية والغذائية,
واتخاذها قرارات مشتركة تقضي بتجميد الموانئ العراقية بذريعة (تحديد المنافذ),
فحصرت استيراد المواد الغذائية والزراعية بمنافذ الشلامجة, وحاج عمران, وسفوان,
والوليد, وإبراهيم الخليل, والمنذرية, وأم قصر, وطريبيل, وربيعة فقط ؟, ومنعت
التعامل مع منافذنا البحرية في أبي الفلوس, والمعقل, وخور الزبير, والفاو ؟, وذلك
بموجب تعليمات دائرة التخطيط والمتابعة في وزارة الزراعة, وكتبها الموجهة إلى وزارة
التجارة, تحت عنوان (تحديد منافذ), والتي تحمل الأرقام (22472) في 6/9/2009,
و(23940) في 16/9/2009, وكانت تقضي بوجوب التقيد بالتحديدات الصارمة اعتبارا من
1/10/2009. ما أدى إلى حرمان منافذنا المنتشرة على ضفاف شط العرب من استقبال السفن
المحملة بالمنتجات الزراعية والغذائية والأسمدة والأعلاف والأخشاب, وكان ميناء (أبو
فلوس) أول المتضررين من تطبيقات القرارات المشتركة لوزارتي الزراعة والتجارة. .
ثم تكاملت حلقات القيود الفولاذية المفروضة على أنشطتنا البحرية
عندما تسللت مكاتب ضريبة الدخل إلى محرمات موانئنا لتكتب الفصل ما قبل الأخير من
مراسيم العزاء, الذي شاركت فيه المؤسسات الطفيلية العابثة, ففي الوقت الذي كانت فيه
الموانئ منشغلة بتفتيت الرسوم المالية الجمركية المتحجرة, جاءت مكاتب الضريبة لتزيد
الوضع سوءاً وتعقيداً, وتضيف هموما جديدة لهمومنا البحرية الموروثة, وترفع من مستوى
الفواتير المفروضة على السلع المستوردة, ابتداءً من الرسوم الجمركية الثقيلة, إلى
رسوم الحجر البيطري, ورسوم الفحص الطبي, والفحص الغذائي, ورسوم التقييس والسيطرة
النوعية, ورسوم وزارتي التجارة والزراعة, وكانت حصة الأسد من نصيب وزارة المالية,
التي تفننت في فرض الرسوم الجمركية والضريبية, ما اضطر وزارة النقل إلى تخفيض
أجورها وعوائدها إلى الحد الأدنى لضمان استقطاب خطوط الشحن البحري, وتقديم أفضل
التسهيلات للسفن الوافدة, في حين راحت الوزارات الأخرى تمارس هواياتها التخريبية
المفضلة في مصادرة جهود الموانئ, وبالاتجاه الذي يستفز التاجر, ويضيق الخناق على
المستورد, من دون أن تكترث لما ستؤول إليه أحوالنا البحرية والمينائية. .
وأخيرا وليس آخرا خرجت علينا دائرة الموازنة في وزارة المالية
بخطاب غريب يحمل الرقم (1635) في 8/1/2012, وجهته إلى وزارة النقل, يتضمن تنفيذ حكم
الإعدام بمستقبل الملاكات البحرية التخصصية, ويتضمن مصادرة حقوقهم المهنية
والوظيفية والتقاعدية, ويهدف إلى طمس هوية الشرائح الملاحية العاملة على السفن
والناقلات التجارية وعلى الوحدات البحرية العائمة, والتشكيلات المينائية الموجودة
في الأرصفة. .
يتضمن الكتاب اعترافا رسميا بعدم وجود أية ملاكات بحرية تخصصية
في العراق على وجه العموم, ويعد من الوثائق التي ستحاججننا بها الأطراف المغرضة
الساعية إلى حرمان العراق من استحقاقاته البحرية والملاحية, سيقولون لنا: هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين, وقولوا لنا أين هي ملاكاتكم البحرية, وأين هي سجلاتكم
الملاحية إذا كانت وزارتكم المالية لا تعترف بكم.
نقرأ في متن الخطاب الرسالة التالية:
((نرفق لكم مفردات ملاك الشركة العامة للموانئ العراقية لسنة
2011 المصادق عليه من قبل وزارة المالية))
ولو بحثنا في قوائم تلك المفردات المرفقة مع الخطاب لما وجدنا
فيها صفة واحدة من الصفات البحرية, أو رتبة واحدة من الرتب الملاحية, أو درجة
وظيفية واحدة من الدرجات الشائعة في المضمار البحري. ليست هناك أية إشارة للمرشد
البحري, ولا للكابتن البحري, ولا لربان المرفأ, ولا للمهندس البحري, ولا للبحار,
وماسك الدفة, ورقيب السطحة, والزيّات, والآلي البحري, والميكانيك البحري, والغواص,
والمساح البحري, وضابط السيطرة البحرية, وسائق الزورق, ولم تأخذ وزارة المالية بعين
الاعتبار الدرجات البحرية المدرجة في الجداول الوظيفية لقانون الخدمة البحرية
المدنية رقم (201) لسنة 1975, وكادت أن تنسف أحكامه وكأنها لا تدري إن القانون لا
يغيّر إلا بقانون. .
وصل كتاب وزارة المالية إلى قسم إدارة الموارد البشرية التابع
للدائرة الإدارية والمالية في وزارة النقل, فحوله القسم المعني إلى الشركة العامة
لموانئ العراقية بالكتاب المرقم (7250) في 26/1/2012. .من دون أن ينتبه العاملون في
قسم الموارد البشرية إلى غياب الدرجات البحرية من جداول وزارة المالية, التي خلت
تماما من توصيفات الملاكات البحرية, في
مخالفة صريحة لأحكام الاتفاقية الشاملة لتنظيم شؤون العاملين في البحر, وهي
الاتفاقية التي أقرتها منظمة العمل الدولية (ILO), بعد
أن جمعت فيها حوالي (37) اتفاقية سابقة, تتضمن حقوق العاملين على الناقلات
العملاقة, والسفن التجارية بكافة أنواعها, وسفن وزوارق الصيد, والأرصفة والموانئ
والمرافئ, والمنصات النفطية, وقوارب الخدمة, وفرق الغوص والمسح الهيدروغرافي,
وأحواض التسفين الجافة والعائمة, ومحطات الرصد والمراقبة المقامة في الماء,
والمنشآت والجنائب العائمة. .
وبناء عليه سارعت وزارات القوى العاملة في معظم الدول العربية
إلى مراعاة أحكام المعايير الصادرة عن منظمة العمل الدولية سواء المصدق عليها, أو
غير المصدق عليها في تطبيق التوصيف الوظيفي لرجال البحر بصيغته الحضارية الصحيحة,
وسارت الدول العربية كلها في مسارات متقاربة, وبخطوط متوازية نحو تنظيم شؤون
العاملين في البحر, وضمان حقوقهم المالية. .
مما يبعث على الدهشة إن جداول وزارة المالية بدأت بدرجة (مدير
عام), وانتهت بدرجة (معاون حرفي), من دون أن تتطرق إلى العاملين في هياكل التشكيلات
البحرية والنهرية في عموم مسطحاتنا المائية الصالحة للملاحة. .
كان العراق أول الأقطار العربية التي انضمت إلى المنظمة البحرية
العالمية (IMO), وأول الأقطار
العربية التي انضمت إلى المنظمة العالمية للفنارات والمنائر البحرية (IALA),
وكان أول الأقطار العربية التي صادقت على اتفاقية الأصول الدولية للموانئ البحرية
الموقعة في جنيف في التاسع من كانون الأول عام 1923 , وصادق العراق عام 1965 على
الاتفاقية الخاصة بفحص الطواقم البحرية لسنة 1921, ثم صادق على الاتفاقية البحرية
لسلامة الأرواح في البحار (سولاس) لسنة 1974 والبروتوكولات الملحقة بها, وشارك في
معظم المؤتمرات والندوات البحرية العالمية, ولابد من الإشارة هنا إلى إن العراق كان
من الأقطار العربية المؤسسة لاتحاد الموانئ البحرية العربية, وكان من أقدم البلدان
العربية التي اعتمدت على الأسس الصحيحة في التعامل الحضاري مع الطواقم البحرية
اعتبارا من عام 1919 عندما اصدر بيان سير السفن في المياه الداخلية, أي قبل ولادة
ملاكات وزارة المالية بأكثر من نصف قرن, لكنها تنكرت لطواقمنا وملاكاتنا البحرية,
ولم تلتفت إلى هذا الإرث البحري العريق, وكأنها تريد أن تجرد العراق من هويته
البحري, وتطمس تاريخه الملاحي المشرف. .
ربما لا تعلم تشكيلات وزارة المالية إن في العراق أكثر من مؤسسة
بحرية تخصصية في أمس الحاجة إلى اعتماد الأسس الصحيحة في التوصيف النوعي الوظيفي
أسوة ببقية الأقطار العربية, من هذه المؤسسات نذكر: الشركة العامة للنقل البحري,
والشركة العامة لناقلات النفط العراقية, وقيادة القوة البحرية, وآمرية خفر السواحل
والمياه الداخلية, وأسراب الشرطة النهرية, وأكاديمية الخليج العربي للدراسات
البحرية, ومركز علوم البحار, وتضم المواني العراقية أهم واكبر الأقسام البحرية
التخصصية في عموم العراق, من مثل قسم الملاحة البحرية, قسم التنوير البحري, قسم
التفتيش البحري, قسم المسح البحري, قسم الإنقاذ البحري, شعبة السيطرة البحرية, شعبة
مكافحة التلوث البحري, قسم المسافن البحرية والأحواض العائمة, المزلق البحري, قسم
الاتصالات اللاسلكية البحرية. . الخ.
يعمل في هذه المؤسسات والأقسام والشعب البحرية اليوم آلاف
الكوادر البحرية التخصصية, فهل نلغي ملاكاتهم كلهم, ونبحث لهم عن حلول ترقيعية تفقد
العراق هيبته البحرية, وهل نسحب البساط من تحت أقدام مؤسساته البحرية العريقة ؟,
وهل يجوز تسكينهم في درجات وظيفية تحاكي الوظائف التقليدية الشائعة في المؤسسات غير
البحرية ؟؟, وهل يصح أن نلغي دور أكاديميتنا البحرية ونمنعها من تأهيل الكوادر
البحرية, ونعتمد على العمالات الأجنبية الوافدة ؟؟, وهل يحق للمالية مخالفة الشرائع
العالمية والإقليمية والعربية فتسمي الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية, وهل يحق لنا
أن نلجأ إلى الموائمة بين الوظائف البرية والبحرية فنخلط الأوراق, ونسلخ عناوين
الوظائف البحرية من قيمتها المهنية والمعنوية, فنضع المرشد البحري في درجة توازي
درجة (ضابط مخابرة) ؟, ونضع الربان أعالي البحار في درجة توازي درجة (مدير فني) ؟,
ونضع درجة ربان المرفأ بدرجة توازي درجة (معاون رئيس مراقبين فنيين) ؟, ونضع الضابط
البحري الثالث بدرجة توازي درجة (مراقب) ؟, ونضع درجة ربان باخرة ساحلية بدرجة
توازي درجة (ملازم أول عسكري) ؟, ونضع درجة بحار أول بدرجة توازي درجة (ملازم) ؟,
ونضع درجة البحار الثاني بدرجة توازي درجة (مفوض) ؟. .
لا تستغربوا إذا علمتم إن هذا هو التناقض الوظيفي الذي سترتكبه
الخلايا الإدارية العابثة بغية وأد الكفاءات البحرية العراقية, وبهدف مصادرة
مؤهلاتنا بالاتجاه الذي ينتزع العراق من جذوره البحرية, ويعزلنا تماما عن تطبيقات
المنظمات البحرية العالمية, خصوصا بعد أن ختمت وزارة المالية في سجلاتنا, وثبتت
تاريخ انتهاء صلاحيتنا, وتعاملت معنا أسوة بالسلع الاستهلاكية المعرضة للتلف بعد
نفاذ مدة الاستخدام. . .
ختاما نقول: من فيكم سمع بدرجة (مفوض) بين طواقم سفينة واحدة من
سفن الأساطيل التجارية التي تجوب الآن البحار والمحيطات ؟؟, ومن فيكم سمع بمرشد
بحري يحمل درجة (مخابر) ؟؟. ثم ما علاقة هذا بذاك, وما علاقة ذاك بهذا, وما الذي
سيكون عليه مصيرنا في قعر بندول التأرجح المالي خارج فضاءات العمل البحري الصحيح
؟؟. .
ناس تبني وناس تهدم
في بريطانيا تكفلت وزارة المالية بتغطية نفقات إعادة بناء هيكل
السفينة الأسطورية الغارقة (تيتانك) في مشروع خيالي يضاهي مشاريع الفضاء, في حين
تبرعت دائرة الموازنة المالية في العراق بتفكيك هياكل الكيانات البحرية العراقية في
مشروع خيالي يتناقض تماما مع الإرث الحضاري لبلاد ما بين النهرين, التي شهدت ولادة
أقدم وأكبر السفن الأسطورية العملاقة (سفينة سيدنا نوح)
وعرب وين طنبورة وين ؟؟؟